وإنْ كانَتْ سبَبَ النُّزولِ فالقرآنُ لا يُقتصرُ به على مَحالِّ أسبابِه، ولو كانَ كذلكَ لَبطَلَ الاستدلالُ به على غيرِها.
وقالَت طائفةٌ:«بلِ الآيةُ مَنسوخةٌ بقولِه: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ [النور: ٣٢]»، وهذا أَفسَدُ مِنَ الكلِّ، فإنه لا تعارُضَ بينَ هاتَين الآيتَين ولا تُناقِضُ إحداهُما الأُخرى، بل أمَرَ سُبحانَه بإنكاحِ الأيامَى وحرَّمَ نكاحَ الزانيةِ كما حرَّمَ نكاحَ المعتدَّةِ والمُحرِمةِ وذواتِ المحارِمِ، فأينَ الناسخُ والمَنسوخُ في هذا؟
فإنْ قيلَ: فما وجهُ الآيةِ؟ قيلَ: وَجهُها -واللهُ أعلَمُ- أنَّ المتزوِّجَ أُمِرَ أنْ يتزوَّجَ المُحصَنةَ العفيفةَ، وإنما أُبيحَ له نكاحُ المرأةِ بهذا الشرط كما ذكَرَ ذلكَ سُبحانَه في سُورتَي النِّساءِ والمائدةِ، والحكمُ المُعلَّقُ على الشرطِ يَنتفي عند انتفائِه، والإباحةُ قد عُلِّقَت على شَرطِ الإحصانِ، فإذا انتَفى الإحصانُ انتَفَتِ الإباحةُ المَشروطةُ به، فالمتزوِّجُ إمَّا أنْ يلتِزمَ حُكمَ اللهِ وشرْعَه الذي شَرَعَه على لسانِ رَسولِه أو لا يَلتزمَه، فإنْ لم يَلتزمْه فهو مُشرِكٌ لا يَرضى بنكاحه إلا مَنْ هو مُشركٌ مثلَه، وإنِ التزمَه وخالَفَه ونكَحَ ما حُرِّمَ عليه لمْ يَصحَّ النكاحُ فيكونُ زانيًا، فظهَر معنَى قولِه: ﴿لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ [النور: ٣] وتبيَّنَ غايَةَ البيانِ، وكذلكَ حُكمُ المرأةِ، وكما أنَّ هذا الحُكمَ هو موجَبُ القُرآنِ وصريحُه، فهو موجَبُ الفِطرةِ ومُقتضى العقلِ، فإنَّ اللهَ سبحانَه حرَّمَ على عبدِه أنْ يكونَ قَرنانًا ديُّوثًا زوْجَ بغيٍّ، فإنَّ اللهَ تعالَى فطَرَ الناسَ على استِقباحِ ذلك واستِهجانِه، ولهذا إذا بالَغُوا في