في زَمنِ المُتوكلِ من الفِتنةِ، ولكنَّها فِتنةٌ من نَوعٍ جَديدٍ، إنَّها فِتنةُ الدُّنيا، فِتنةُ المالِ، والجاهِ، والدُّخولِ على السُّلطانِ، فقد حاوَلَ المُتوكلُ أنْ يُغدقَ على الإمامِ الأَموالَ، ولكنَّ إمامَنا، وعالِمَنا لم تُرهِبْه السِّياطُ والتَّعذيبُ، ولم يَجذِبْه بَريقُ المالِ، والسُّلطانِ، فقالَ: أسلَمُ من هؤلاء ستِّينَ سَنةً، ثم أُبتَلى بهم؟! فما قبِلَ من ذلك شَيئًا، وعاشَ بَقيةَ عُمرِه زاهِدًا في الدُّنيا، راغِبًا في الآخِرةِ، فازدادَ ارتِفاعًا في قُلوبِ الخَلقِ، وكان له أكبَرُ الأثرِ في عُلماءِ عَصرِه، ومِن بعدِ عَصرِه، فنشأت مَدرسةٌ هي مَدرسةُ الحَنابِلةِ، إِمامُها أَحمدُ بنُ حَنبلٍ، فللهِ دَرُّه! على اللهِ تَعالى أَجرُه، ونحن في ذَيلِ الزَّمانِ نَسمعُ أخبارَه، فتَمتَلئُ قُلوبُنا رَوعةً ومَحبةً له، فكيف بمَن عاصَروه، وشاهَدوا عِلمَه، وزُهدَه، وصَبْرَه، وليسَ الخبَرُ كالعَيانِ.
وقبلَ أنْ نضَعَ القَلمَ في التَّقديمِ لهذا العَلمِ نَسألُ اللهَ ﷿ أنْ يَنفعَ بهذه الكَلماتِ مَنْ قرَأَها، وأنْ يُقرِّبَنا بها من هؤلاء الأَعلامِ، وأنْ يَفتحَ علينا وعلى المُسلِمينَ، كما فتَحَ عليهم في الدِّينِ، وأنْ يَرزُقَنا بِرَّها، وذُخرَها يَومَ العَرضِ على رَبِّ العالَمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ على مُحمدٍ وآلِه الطَّيِّبينَ، وأَصحابِه الغُرِّ المَيامينِ، والحَمدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ.