ولو كان المَبيعُ العَمَلَ نَفْسَه لَما صَحَّ ذلك، ولأنَّ الاستِصناعَ طلبُ الصُّنعِ فما لَم يُشترَطْ فيه العَمَلُ لا يَكونُ استِصناعًا، فكان مأخَذُ الاسمِ دَليلًا عليه، ولأنَّ العَقدَ على مَبيعٍ في الذِّمَّةِ يُسمَّى سَلَمًا، وهذا العَقدُ يُسمَّى استِصناعًا، واختِلافُ الأسماءِ دَليلُ اختِلافِ المَعاني في الأصلِ.
وأمَّا إذا أتى الصانِعُ بعَينٍ صَنَعَها قبلَ العَقدِ ورَضيَ به المُستَصنِعُ فلَم يَجُزْ بالعَقدِ الأوَّلِ، بل جازَ بعَقدٍ آخَرَ وهو التَّعاطي بتَراضِيهما (١).
دَليلُ جَوازِ الاستِصناعِ:
يرى فُقهاءُ الحَنفيَّةِ أنَّ القياسَ يأبى جَوازَ الاستِصناعِ؛ لأنَّه بَيعُ ما ليس عندَ الإنسانِ، لا على وَجهِ السَّلَمِ، وقد نَهى رَسولُ اللهِ ﷺ عن بَيعِ ما ليس عندَ الإنسانِ، ورَخَّصَ في السَّلَمِ، ويَجوزُ استِحسانًا لِإجماعِ الناسِ على ذلك؛ لِأنَّهم يَعمَلونَ ذلك في سائِرِ الأعصارِ مِنْ غيرِ نَكيرٍ، والقياسُ يُترَكُ بالإجماعِ؛ ولِهذا تُرِكَ القياسُ في دُخولِ الحَمَّامِ بالأجْرِ مِنْ غيرِ بَيانِ المُدَّةِ ومِقدارِ الماءِ الذي يُستَعمَلُ، وفي قَطعِ الشارِبِ لِلسِّقاءِ مِنْ غيرِ بَيانِ قَدرِ المَشروبِ، وفي شِراءِ البَقلِ، وهذه المُحقَّراتُ، كذا هذا.
ولأنَّ الحاجةَ تَدعو إليه؛ لأنَّ الإنسانَ قد يَحتاجُ إلى خُفٍّ أو نَعلٍ مِنْ جِنسٍ مَخصوصٍ ونَوعٍ مَخصوصٍ على قَدْرٍ مَخصوصٍ وصِفةٍ مَخصوصةٍ، وقَلَّما يَتَّفِقُ وُجودُه مَصنوعًا فيَحتاجُ إلى أنْ يَستَصنِعَ فلو لَم يَجُزْ لَوَقَع
(١) «بدائع الصنائع» (٥/ ٢)، و «المبسوط» (١٢/ ١٣٩، ١٤٠)، و «المحيط البرهاني» (٨/ ٧٠٨)، و «البحر الرائق» (٦/ ١٨٥).