وقالَ أبو الوَليدِ بنُ رُشدٍ القُرطُبيُّ ﵀: ولم يَرَ ابنُ القاسِمِ إذا تصَدَّق بجَميعِ مالِه على بعضِ وَلدِه أنْ يَردَّ ذلك بقَضاءٍ، والأصلُ في هذه المَسألةِ حَديثُ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ أنَّ أَباه بَشيرًا أَتى به إلى رَسولِ اللهِ ﷺ فقالَ: إنني نحَلتُ ابني هذا غُلامًا كانَ لي، فقالَ رَسولُ اللهِ ﷺ:«أكُلَّ وَلدٍ نحَلتَه مِثلَ هذا؟» فقالَ: لا. فقالَ رَسولُ اللهِ ﷺ:«فارتَجِعْه» فحمَلَ مالِكٌ الأمرَ بالارتِجاعِ في الحَديثِ على الوُجوبِ، وتأوَّلَه على أنَّه لم يَكنْ له مالٌ غيرُه، وحمَلَه ابنُ القاسِمِ على العُمومِ فيمَن خَصَّ بعضَ بَنيه ببَعضِ مالِه أو بجَميعِه، وتأوَّلَه على الندَّبِ وهو أظهَرُ؛ لأنَّه لم يَقُلْ ﷺ: إنَّ ذلك لا يَجوزُ لك، وإنَّما أمَرَه بالارتِجاعِ لمَا كرِهَ له من تَفضيلِ بعضِ وَلدِه على بَعضٍ مَخافةَ أنْ يَكونَ ذلك سَببًا في أنْ يَعُقَّه مَنْ حرَمَه عَطيتَه، وأمَّا إذا أعطى بعضَ وَلدِه بعضَ مالِه -وإنْ كانَ جُلَّه- وأبقى لنَفسِه بَعضَه فلا اختِلافَ في المَذهبِ ولا بينَ فُقهاءِ الأَمصارِ، مالِكٍ والشافِعيِّ وأبي حَنيفةَ في أنَّ ذلك جائِزٌ، إلا أنَّه مَكروهٌ لمَا جاءَ من الأمرِ بأنْ يَعدلَ الرَّجلُ بينَ وَلدِه في العَطيةِ (١).
وقالَ ابنُ رُشدٍ ﵀: واتَّفَقوا على أنَّ للإِنسانِ أنْ يَهبَ جَميعَ مالِه للأجنَبيِّ، واختَلفوا في تَفضيلِ الرَّجلِ بعضَ وَلدِه على بَعضٍ في الهِبةِ أو في جَميعِ مالِه لبَعضِهم دونَ بَعضٍ.
(١) «البيان والتحصيل» (١٣/ ٣٧٠، ٣٧١)، و «الذخيرة» (٦/ ٢٨٩).