فإنْ قيلَ: قالَه تَهديدًا. قُلنا: الأصلُ في كَلامِ الشارِعِ غيرُ هذا، ويَحتملُ عندَ إطلاقِه صيغةَ «أفعِلْ» على الوُجوبِ أو النَّدبِ؛ فإنْ تعذَّرَ ذلك فعلى الإِباحةِ.
وأمَّا قَولُه ﷺ:«لا أشهَدُ على جَورٍ» فليسَ فيه أنَّه حَرامٌ؛ لأنَّ الجَورَ هو المَيلُ عن الاستِواءِ والاعتِدالِ، وكلُّ ما خرَجَ عن الاعتِدالِ فهو جَورٌ، سَواءٌ كانَ حَرامًا أو مَكروهًا، وقد وضَحَ بما قدَّمناه أنَّ قَولَه ﷺ:«أشهِدْ على هذا غيري» يَدلُّ على أنَّه ليسَ بحَرامٍ، فيَجبُ تَأويلُ الجَورِ على أنَّه مَكروهٌ كَراهةَ تَنزيهٍ، وفي هذا الحَديثِ أنَّ هِبةَ بعضِ الأَولادِ دونَ بَعضٍ صَحيحةٌ، وأنَّه إنْ لم يَهبِ الباقين مِثلَ هذا استُحِبَّ رَدُّ الأولِ، قالَ أَصحابُنا: يُستحبُّ أنْ يَهبَ الباقينَ مِثلَ الأولِ؛ فإنْ لم يَفعلِ استُحبَّ رَدُّ الأولِ ولا يَجبُ (١).
وقالَ الشافِعيةُ: يَنبَغي للوالِدِ وإنْ علا أنْ يَعدلَ بينَ أَولادِه في العَطيةِ؛ لحَديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ ولئلَّا يُفضيَ بهم الأمرُ إلى العُقوقِ والتَّحاسدِ؛ فإنْ لم يَعدلْ فعَلَ مَكروهًا، لكنْ تَصحُّ الهِبةُ؛ لقَولِه ﷺ في حَديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ:«فأرجِعْه» فلولا أنَّ الهِبةَ قد صحَّت لمَا أمَرَه بالرَّجعةِ.
وفي رِوايةٍ:«أنَّ النُّعمانَ بنَ بَشيرٍ قالَ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أُمَّه قالَت: لا أَرضى حتى يَشهدَ رَسولُ اللهِ ﷺ، فلمَّا قالَ له ما قالَ من أنَّه لم يُعطِ جَميعَ وَلدِه مِثلَه قالَ له النَّبيُّ ﷺ: «أشهِدْ على هذا غيري»،