ولو قالَ:«هي لك عُمرِي تَسكنُها»، أو «هي هِبةٌ تَسكنُها» أو «صَدقةٌ تَسكنُها»، ودفَعَها إليه فهي هِبةٌ؛ لأنَّه ما فسَّرَ الهِبةَ بالسُّكنَى؛ لأنَّه لم يَجعلْه نَعتًا، فيَكونُ بَيانًا للمُحتمَلِ، بل وهَبَ الدارَ منه ثم شاوَرَه فيما يَعملُ بمِلكِه، والمَشورةُ في مِلكِ الغيرِ باطِلةٌ، فتَعلَّقَت الهِبةُ بالعَينِ.
وقَولُه «تَسكنُها» بمَنزلةِ قَولِه «لتَسكنَها»، كما إذا قالَ:«وهَبتُها لك لتُؤاجِرَها» ولو قالَ: «هي لك تَسكنُها»، كانت هِبةً أيضًا؛ لأنَّ الإضافةَ بحَرفِ اللامِ إلى مَنْ هو أهلُ المِلكِ للتَّمليكِ، وقَولُه:«تَسكنُها» مَشورةٌ على ما بَيَّنَّا.
وإنْ قالَ:«أسكَنتُك داري هذه حَياتَك ولعَقِبِك من بَعدِك»، فهذه عارِيةٌ؛ لأنَّه صرَّحَ بلَفظِ الإِسكانِ، وهو تَصرُّفٌ في المَنفعةِ دونَ العَينِ، وقَولُه:«لعَقِبِك بعدَك» عَطفٌ، والعَطفُ للاشتِراكِ، فمَعناه سُكناها لعَقِبِك من بعدِك فهي هِبةٌ له، وذِكرُ العَقِبِ لَغوٌ؛ لأنَّ قَولَه:«هي لك» تَمليكٌ لعَينِها منه وبعدَ ما هلَكَ عنها منه لا يَبقى له وِلايةُ إِيجابِها لغيرِه، فكانَ قَولُه:«ولعَقِبِك من بَعدِك» لَغوًا، بخِلافِ الأولِ؛ فإنَّ بعدَ إِيجابِ المَنفعةِ له بطَريقِ العارِيةِ يَبقى له وِلايةُ الإِيجابِ لغيرِه، فكانَ كَلامُه عارِيةً في حَقِّه وفي حَقِّ عَقبِه بعدَه، وله أنْ يَأخذَها متى شاءَ (١).
(١) «بدائع الصنائع» (٦/ ١١٨)، و «المبسوط» (١٢/ ٩٦، ٩٧)، و «البحر الرائق» (٧/ ٢٨٥)، و «ابن عابدين» (٨/ ٤٩٣)، و «الفتاوى الهندية» (٤/ ٣٦٣)، و «درر الحكام» (٦/ ٤٩٩).