للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فذهَبَ جُمهورُ الفُقهاءِ الحَنفيةُ والشافِعيُّ -كما حَكاه ابنُ قُدامةَ عنه- والحَنابِلةُ إلى أنَّ قَولَه: «أسكَنتُكَ داري عُمرَكَ أو دارِي لك سُكنَى، أو منَحتُك دارِي عُمرِي أو عُمرَك» فهذه عارِيةٌ، له الرُّجوعُ فيها متى شاءَ؛ لأنَّ المَنافعَ إنَّما تُستَوفَى شَيئًا فشَيئًا بمُضيِّ الزَّمانِ، فلا تَلزمُ إلا في قَدرِ ما قبَضَه منه.

فقالَ الحَنفيةُ: إنْ كانت القَرينةُ مَنفعةً بأنْ قالَ: «دارِي لك سُكنَى أو عُمرَى سُكنَى، أو صَدقةَ سُكنَى، أو هِبةَ سُكنَى، أو سُكنَى هِبةٍ، أو هي لك عُمرى عارِيةٍ»، ودفَعَها إليه، فهذا كلُّه عارِيةٌ؛ لأنَّه لمَّا ذكَر السُّكنَى في قَولِه: «دارِي لك سُكنَى، أو عُمرِي سُكنَى أو صَدقةَ سُكنَى» دلَّ على أنَّه أرادَ تَمليكَ المَنافعِ؛ لأنَّ قَولَه «هذا لك» ظاهِرُه وإنْ كانَ لتَمليكِ العَينِ لكنَّه يَحتملُ تَمليكَ المَنفعةِ؛ لأنَّ الإضافةَ إلى المُستعيرِ والمُستأجرِ مَنفعةٌ عُرفًا وشَرعًا.

وقَولُه «سُكنَى» " مَوضوعٌ للمَنفعةِ لا تُستعمَلُ إلا لها، فكانَ مُحكمًا فجُعلَ تَفسيرًا للمُحتمَلِ وبَيانًا أنَّه أرادَ به تَمليكَ المَنفعةِ، وتَمليكَ المَنفعةِ بغيرِ عِوضٍ هو تَفسيرُ العارِيةِ، وكذا قَولُه: «سُكنَى» بعدَ ذِكرِ الهِبةِ يَكونُ تَفسيرًا للهِبةِ؛ لأنَّ قَولَه: «هِبةٌ» يَحتمِلُ هِبةَ العَينِ ويَحتملُ هِبةَ المَنافعِ، فإذا قالَ: «سُكنى» فقد عيَّنَ هِبةَ المَنافعِ، فكانَ بَيانًا لمُرادِ المُتكلمِ أنَّه أرادَ هِبةَ المَنافعِ، وهِبةُ المَنفعةِ تَمليكُها من غيرِ عِوضٍ، وهو مَعنى العارِيةِ.

وإذا قالَ: «سُكنَى هِبةٍ» فمَعناها أنَّ سُكنَى الدارِ هِبةٌ لك، فكانَ هِبةَ المَنفعةِ، وهو تَفسيرُ العارِيةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>