وقَولُه لغيرِه:«كسَوتُك هذا الثَّوبَ»، كِنايةٌ في الهِبةِ؛ فإنْ قالَ الواهِبُ:«لم أُرِدْها»، صُدِّقَ؛ لأنَّه يَصلحُ للعارِيةِ فلا يَكونُ صَريحًا في الهِبةِ كالبَيعِ.
ولا يُشترطُ الإِيجابُ والقَبولُ في الهَديةِ على الصَّحيحِ، ولو في غيرِ المَطعومِ، بل يَكفي البَعثُ من المُهدِي، ويَكونُ كالإِيجابِ والقَبضِ من المُهدَى إليه، ويَكونُ كالقَبولِ؛ لأنَّ الهَدايا كانت تُحملُ إلى رَسولِ اللهِ ﷺ من المُلوكِ وغيرِهم كالكِسوةِ والدَّوابِّ والجَواري فيَقبلُها، ولا لَفظَ هناك، وعلى هذا جَرى الناسُ في الأعصارِ، ولذلك كانوا يَبعَثونَ بها على أيدي الصِّبيانِ الذين لا عِبارةَ لهم.
وفي الصَّحيحَينِ:«كانَ الناسُ يَتحرَّونَ بهَداياهم يَومَ عائِشةَ ﵂»، ولم يُنقَلْ إِيجابٌ ولا قَبولٌ.
قالَ الإمامُ النَّوويُّ ﵀: وهذا الصَّحيحُ الذي عليه قَرارُ المَذهبِ، ونقَلَه الأَثباتُ من مُتأخِّري الأَصحابِ …
فإنْ قيلَ: هذا كانَ إباحةً، لا هَديةً وتَمليكًا، فجَوابُه أنَّه لو كانَ إباحةً لمَا تَصرَّفوا فيه تَصرُّفَ المُلَّاكِ، ومَعلومٌ أنَّ ما قبِلَه النَّبيُّ ﷺ كانَ يَتصرَّفُ فيه ويُملِّكُه غيرَه، ويُمكنُ أنْ يُحملَ كَلامُ مَنْ اعتبَرَ الإِيجابَ والقَبولَ على الأمرِ المُشعِرِ بالرِّضا دونَ اللَّفظِ، ويُقالُ: الإِشعارُ بالرِّضا قد يَكونُ لَفظًا وقد يَكونُ فِعلًا (١).
(١) «روضة الطالبين» (٤/ ١٨٠، ١٨١)، ويُنظَرُ: «البيان» (٨/ ١١٢، ١١٣)، و «الوسيط» (٥/ ٢٠٩)، و «النجم الوهاج» (٥/ ٥٣٩)، و «مغني المحتاج» (٣/ ٤٨٨)، و «كنز الراغبين» (٣/ ٢٧١، ٢٧٢)، و «تحفة المحتاج» (٧/ ٥٦٣)، و «نهاية المحتاج» (٥/ ٤٦٥)، و «الديباج» (٢/ ٥٣٨).