عليهم فيه لبُعدِه عنهم، ويَجوزُ لهم النُّزولُ حيثُ لا يَضرونَ المُجتازَ ولا يَمنعونَ سائلًا، ثُم لهم الماءُ والمَرعى مِنْ غير مَنعٍ ولا حُمى، وهكذا البادِيةُ إذا انتَجعوا أرضًا طلبًا للماءِ والكَلأِ مكَثوا فيها ولم يُزالوا عنها، وليسَ لهم أنْ يَمنعوا غيرَهم مِنْ انتِجاعِها ورَعيِها إلا أنْ يَضيقَ بهم، فيَكونُ السابِقونَ إليها أَولى بها ممن جاءَ بعدَهم، رَوى يُوسفُ بنُ ماهكَ عن أَبيه عن عائِشةَ ﵂ قالَتْ:«قُلتُ: يَا رَسولَ اللَّهِ، ألَا نَبنِي لك بمنًى بِناءً يُظللُكَ مِنْ الشَّمسِ؟ فقالَ: لا، إنَّما هو مناخُ مَنْ سبَقَ إليه»(١)، فلو ضاقَ المَنزلُ عن جَميعِ ما ورَدَ إليه نزَلوا فيه بحَسبِ مَسيرِهم إليه يَترتَّبونَ النُّزولَ كما كانوا مُترتِّبينَ في المَسيرِ، فمَن قصَرَ عنهم عن لُحوقِ المَنزلِ نزَلَ حيثُ بلَغَ، ولو ضاقَ بهم الماءُ فإنْ كانوا لو تَواسَوا به عمَّهم لزِمَهم أنْ يَتواسَوا فيه، ومُنِعوا مِنْ أنْ يَحوزَ بعضُهم أكثرَ مِنْ حاجتِه، وإنْ ضاقَ عن مُواساتِهم فيه كانَ الأَسبقُ إليه أحقَّ بقَدرِ كِفايتِه عنهم، فإنْ غلَبَ عليه المَسبوقُ لَم يَسترجِعْ منه؛ لأنَّه قد ملَكَه بالإِجارةِ بعدَ أنْ كانَ مُباحًا، وإنْ جاءوا إليه على سَواءٍ لَم يَسبِقْ بعضُهم بعضًا وهو يَنقصُ عن كَفايتِهم اقتَرعوا عليه، فأيُّهم قُرعَ كانَ أحقَّ بما يُمسِكُ رَمقَه حتى يَرتويَ الآدَميونَ، وليسَ لمَن قُرعَ منهم أنْ يُقدِّمَ بهائمَه على ارتِواءِ الآدَميينَ، فإذا ارتَوى الآدَميونَ جَميعًا استُؤنفَتِ القُرعةُ
(١) رواه أبو داود (٢٠١٩)، والترمذي (٨٨١)، وقَالَ الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه (٣٠٠٧)، وابن خزيمة في «صحيحه» (٢٨٩١)، والحاكم في «المستدرك» (١٧١٤)، وقال: هذا حَديثٌ صَحيحٌ على شَرطِ مُسلمٍ ولم يُخرِّجاهُ.