للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقالَ الشَّافِعيُّ: لا تَصحُّ، إلَّا أنَّه إذا أرادَ ذلك قالَ: أبرَأتُكَ مِنْ دِرهَمٍ إلى ألْفٍ؛ لأنَّ الجَهالةَ إنَّما مُنِعَتْ لِأجْلِ الغَرَرِ؛ فإذا رَضيَ بالجُملةِ فقَد زالَ الغَرَرُ وصَحَّتِ البَراءةُ.

ولَنا: أنَّ النَّبيَّ قالَ لِرَجُلَينِ اختَصَما إليه في مَوارِيثَ دَرَسَتْ: «فاقتَسِمَا وتَوَخَّيَا الحَقَّ، ثم استَهِمَا، ثم تَحَالَّا» رَواه أبو داودَ (١)، ولأنَّه إسقاطٌ، فصَحَّ في المَجهولِ والطَّلاقِ، وكما لو قالَ: مِنْ دِرهَمٍ إلى ألْفٍ، ولأنَّ الحاجةَ دَاعيةٌ إلى تَبرِئةِ الذِّمةِ، ولا سَبيلَ إلى العِلمِ بما فيها، فلَو وُفِّقَتْ صِحَّةُ البَراءةِ على العِلمِ لَكانَ سَدًّا لِبَابِ عَفْوِ الإنسانِ عن أخيه المُسلِمِ، وتَبرِئةِ ذِمَّتِه، فلَمْ يَجُزْ ذلك، كالمَنعِ مِنْ العِتقِ.

وأمَّا إنْ كانَ مَنْ عليه الحَقُّ يَعلَمُه ويَكتُمُه المُستَحقُّ خَوفًا مِنْ أنَّه إذا علِمه لَم يَسمَحْ بإبرائِه مِنه، فيَنبَغي ألَّا تَصِحَّ البَراءةُ فيهِ؛ لأنَّ فيه تَغريرًا بالمُشتَرِي، وقَد أمكَنَ التَّحَرُّزُ مِنه، وقالَ أصحابُنا: لو أبرَأَه مِنْ مِئةٍ وهو يَعتَقِدُ أنَّه لا شَيءَ له عليه، وكانَ له عليه مِئةٌ، ففي صِحَّةِ البَراءةِ وَجْهانِ، أحَدُهما صِحَّتُها؛ لأنَّها صادَفَتْ مِلْكَه، فأسقَطَتْه، كما لو علِمها، والآخَرُ: لا تَصحُّ؛ لأنَّه أبرَأَه ممَّا لا يَعتَقِدُ أنَّه عليه، فلَمْ يَكُنْ ذلك إبراءً في الحَقيقةِ، وأصْلُ الوَجهَيْنِ ما لو باعَ مالًا كانَ لِمُوَرِّثِه، يَعتَقِدُ أنَّه باقٍ لِمُوَرِّثِه، وكانَ مُوَرِّثُه قَدْ ماتَ وانتَقَلَ مِلْكُه إليه، فهَل يَصحُّ؟


(١) رواه أبو داود (٣٥٨٤) قال ابن عبد البر في «التمهيد» (٢٢/ ٢٢٢): وفيه جواز البراءة من المجهول والصلح منه وهبته.

<<  <  ج: ص:  >  >>