للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد كانَ أبو حَنيفَةَ أوَّلًا يَقولُ: إنَّ الأُجرةَ لا تَجِبُ إلَّا بعدَ مُضيِّ المدَّةِ مثلَ استِئجارِ الأرضِ سَنةً أو عَشرَ سِنينَ، وهو قولُ زُفَرَ، ثم رَجعَ هُنا، فقالَ: تَجِبُ يَومًا فيَومًا، وفي الإجارةِ على المَسافةِ، مثلَ أنِ استَأجَرَ بَعيرًا إلى مَكَّةَ ذاهِبًا وجائِيًا، كانَ قولُه الأولُ أنَّه لا يَلزَمُه تَسليمُ الأجْرِ حتى يَعودَ، وهو قولُ زُفَرَ، ثم رَجعَ، وقالَ: يُسَلَّمُ حالًّا فحالًّا.

وَذكرَ الكَرخِيُّ أنَّه يُسَلِّمُ أُجرةَ كلِّ مَرحَلةٍ إذا انتَهَى إلَيها، وهو قولُ أبي يُوسفَ، ومُحمَّدٍ.

وَجهُ قَولِ أبي حَنيفَةَ الأولِ أنَّ مَنافِعَ المدَّةِ أو المَسافةِ مِنْ حَيثُ إنَّها مَعقودٌ عليها شَيءٌ واحِدٌ، فما لَم يَستَوفِها كلَّها لا يَجِبُ شَيءٌ مِنْ بَدَلِها، كَمَنِ استَأجَرَ خيَّاطًا يَخيطُ ثَوبًا، فخاطَ بَعضَه، أنَّه لا يَستَحقُّ الأُجرةَ حتى يَفرُغَ مِنه، وكَذا القَصَّارُ والصَّباغُ.

وَجْهُ قَولِه الآخَرِ -وهو المَشهورُ- أنَّه مِلْكُ البَدَلِ، وهو المَنفَعةُ، وأنَّها تَحدُثُ شَيئًا فشَيئًا، على حَسَبِ حُدوثِ الزَّمانِ، فيَملِكُها شَيئًا فشَيئًا على حَسَبِ حُدوثِها، فكَذا ما يُقابِلُها؛ فكانَ يَنبَغي أنْ يَجِبَ عليه تَسليمُ الأُجرةِ ساعةً فساعةً، إلَّا أنَّ ذلك مُتعَذِّرٌ، فاستَحسَنَ فقالَ يَومًا فيَومًا، ومَرحَلةً فمَرحَلةً؛ لأنَّه لا يُعذَرُ فيه، ورُوِيَ عن أبي يُوسفَ فيمَنِ استَأجَرَ بَعيرًا إلى مَكَّةَ أنَّه إذا بَلَغَ ثُلُثَ الطَّريقِ أو نِصفَه أُعطِيَ مِنْ الأجرِ بحِسابِه استِحسانًا، وذكرَ الكَرخيُّ أنَّ هذا قولُ أبي يُوسفَ الأخيرُ، ووَجْهُه أنَّ السَّيرَ إلى ثُلُثِ الطَّريقِ أو نِصْفِه مَنفَعةٌ مَقصودةٌ في الجُملةِ، فإذا وُجِدَ ذلك القَدْرُ يَلزَمُه تَسليمُ بَدَلِه.

<<  <  ج: ص:  >  >>