قالَ ابنُ قُدامةَ: وحَديثُهم عن ابنِ عَباسٍ لا أصلَ له، وإنَّما هو من قَولِ ابنِ عَباسٍ مَوقوفًا عليه، ولو صَحَّ لوجَبَ تَقديمُ حَديثِنا عليه؛ لكَونِه أصَحَّ منه وأخَصَّ، والخاصُّ يُقدَّمُ على العامِّ، وحَديثُ جابِرٍ لا يُعارِضُ حَديثَنا أيضًا لصِحتِه وخُصوصِه؛ فإنْ قيلَ: فحَديثُ جابِرٍ مُتأخِّرٌ، فيَكونُ ناسِخًا، قُلنا: لا يَصحُّ النَّسخُ به لوُجوهٍ أربَعةٍ:
أحدُها: أنَّ الأمرَ بالوُضوءِ من لُحومِ الإبِلِ مُتأخِّرٌ عن نَسخِ الوُضوءِ مما مَسَّت النارُ أو مُقارنٌ له، بدَليلِ أنَّه قرَنَ الأمرَ بالوُضوءِ من لُحومِ الإبِلِ بالنَّهيِ عن الوُضوءِ من لُحومِ الغَنمِ، وهي مما مَسَّت النارُ، فإمَّا أنْ يَكونَ النَّسخُ حصَلَ بهذا النَّهيِ وإمَّا أنْ يَكونَ بشَيءٍ قبلَه؛ فإنْ كانَ به، والأمرُ بالوُضوءِ من لُحومِ الإبِلِ مُقارِنٌ لنَسخِ الوُضوءِ مما غيَّرتِ النارُ، فكيفَ يَجوزُ أنْ يَكونَ مَنسوخًا به؟ ومِن شُروطِ النَّسخِ تأخُّرُ الناسِخِ، وإنْ كانَ الناسِخُ قبلَه، لم يَجزْ أنْ يُنسخَ بما قبلَه.
والثاني: أنَّ أكلَ لُحومِ الإبِلِ إنَّما نقَضَ لكَونِه من لُحومِ الإبِلِ، لا لكَونِه مما مَسَّت النارُ، ولهذا يَنقضُ، وإنْ كانَ نَيِّئًا، فنَسخُ إحدَى الجِهتَينِ لا يَثبُتُ به نَسخُ الجِهةِ الأُخرى، كما لو حُرِّمت المَرأةُ للرَّضاعِ، ولكَونِها رَبيبةً، فنَسخُ التَّحريمِ بالرَّضاعِ لم يَكنْ نَسخًا لتَحريمِ الرَّبيبةِ.
والثالِثُ: أنَّ خبَرَهم عامٌّ وخبَرَنا خاصٌّ، والعامُّ لا يُنسخُ به الخاصُّ؛ لأنَّ من شُروطِ النَّسخِ تَعذُّرَ الجَمعِ، والجَمعُ بينَ الخاصِّ والعامِّ مُمكنٌ بتَنزيلِ العامِّ على ما عَدا مَحلِّ التَّخصيصِ.