للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَجلَيْنِ اختَصَما إلى رَسولِ اللَّهِ في مَواريثَ قد دَرَستْ وتَقادَمتْ، فقالَ لهما النَّبيُّ : «إنَّكم تَختصِمونَ إلَيَّ ولَعَلَّ أحَدَكم ألحَنُ بحُجَّتِه؛ فمَن قَضَيتُ له مِنْ حَقِّ أخيه شَيئًا فلا يَأخُذْه، إنَّما أقطَعُ له قِطعةً مِنْ النَّارِ»، فبَكَيا وقالَ كلُّ واحِدٍ منهما: قد تَرَكتُ حَقِّي لِصاحِبي. فقالَ : «لا، ولَكِنِ اقتَسِما واستَهِما، وليُحلِلْ كلُّ واحِدٍ منكما صاحِبَه» (١)، فلمَّا أمَرَهما بالتَّحَلُّلِ مِنْ المَواريثِ المُتقادِمةِ المَجهولةِ دَلَّ على جَوازِ الإبراءِ مِنْ المَجهولِ، ولأنَّ الإبراءَ إسقاطُ حَقٍّ صَحَّ مَجهولًا ومعلومًا، كالعِتقِ، ولأنَّ ما لا يَفتقِرُ إلى التَّسليمِ يَصحُّ مع الجَهالةِ، وما يَفتقِرُ إلى التَّسليمِ لا يَصحُّ مع الجَهالةِ، كالبَيعِ، فلمَّا كانَ الإبراءُ لا يَفتقِرُ إلى التَّسليمِ صَحَّ في المَجهولِ، وإذا قيلَ بالثَّاني بأنَّه لا يُبرَأُ مِنْ عَيبٍ فوَجهُه نَهْيُ رَسولِ اللَّهِ عن الغَرَرِ، والإبراءُ عن المَجهولِ غَرَرٌ؛ لأنَّه لا يَقِفُ له على قَدْرٍ، ولأنَّ الإبراءَ كالهِبةِ، غيرَ أنَّ الإبراءَ يَختَصُّ بما في الذِّمَّةِ، والهِبةَ بالأعيانِ القائِمةِ، فلمَّا لَم تَصحَّ هِبةُ المَجهولِ لَم يَصحَّ الإبراءُ عن المَجهولِ، ولأنَّ كُلَّ جَهالةٍ يُمكِنُ الِاحتِرازُ مِنها لَم يُعفَ عنها، كالجَهالةِ بتَوابِعِ المَبيعِ، كالأساسِ وأطرافِ الأجداعِ وطَميِ البِئرِ؛ فلمَّا أمكَنَ الِاحتِرازُ مِنْ الجَهالةِ في الإبراءِ وجَب أنْ تَكونَ الجَهالةُ مانِعةً مِنْ صِحَّةِ الإبراءِ، ولأنَّ الرَّدَّ بالعَيبِ مُستحَقٌّ بعدَ لُزومِ العَقدِ؛ فلَم يَجُزْ أنْ يَسقُطَ بشَرطٍ قبلَ لُزومِ العَقدِ؛ لأنَّه إسقاطُ حَقٍّ قبلَ وُجوبِه، ألَا


(١) حديث حسن: رواه أبو داود (٣٥٨٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>