للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيها إلى الرِّبحِ المُؤخَّرِ، وهو عَينُ رِبا النَّسيئةِ، وهذه ذَريعةٌ قَريبةٌ جِدًّا، فمِن حِكمةِ الشارِعِ أنْ سَدَّ عليهم هذه الذَّريعةَ، ومَنعَهم مِنْ بَيعِ دِرهَمٍ بدِرهمَيْنِ نَقدًا ونَسيئةً، فهذه حِكمةٌ مَعقولةٌ مُطابِقةٌ لِلعُقولِ، وهي تَسُدُّ عليهم بابَ المَفسَدةِ (١).

وقالَ ابنُ العَرَبيِّ عندَ قَولِ اللهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ [البقرة: ٢٧٥]: قالَ عُلماؤُنا: الرِّبا في اللُّغةِ هو الزِّيادةُ، ولا بدَّ في الزِّيادةِ مِنْ مَزيدٍ عليه تَظهَرُ الزِّيادةُ به، فلِأجْلِ ذلك اختَلَفوا هل هي عامَّةٌ في تَحريمِ كلِّ رِبًا، أو مُجمَلةٌ لا بَيانَ لَها إلَّا مِنْ غيرِها؟

والصَّحيحُ أنَّها عامَّةٌ؛ لأنَّهم كانوا يَتبايَعونَ ويُرْبونَ، وكانَ الرِّبا عندَهم مَعروفًا يُبايِعُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ إلى أجَلٍ، فإذا حَلَّ الأجَلُ قالَ أتَقضي أم تُرْبي؟ يَعني: أم تَزيدُني على مالي عليكَ، وأصبِرُ أجَلًا آخَرَ؟ فحرَّم اللَّهُ تَعالى الرِّبا، وهو الزِّيادةُ، ولكنْ لمَّا كانَ -كما قُلنا- لا تَظهَرُ الزِّيادةُ إلَّا على مَزيدٍ عليه، ومتى قابَلَ الشَّيءُ غيرَ جِنْسِه في المُعامَلةِ لَم تَظهَرِ الزِّيادةُ، وإذا قابَلَ جِنْسَه لَم تَظهَرِ الزِّيادةُ أيضًا إلَّا بإظهارِ الشَّرعِ، ولِأجْلِ هذا صارَتِ الآيةُ مُشكِلةً على الأكثَرِ، مَعلومةً لِمَنْ أيَّدَه اللَّهُ تَعالى بالنُّورِ الأظهَرِ.

وقد فاوَضتُ فيها عُلماءَ وباحَثتُ رُفَعاءَ، فكُلٌّ مِنهم أعطَى ما عندَه حتى انتَظَمَ فيها سِلكُ المَعرِفةِ بدُرَرِه وجَوهَرَتِه العُليا.

إنَّ مَنْ زَعَمَ أنَّ هذه الآيةَ مُجمَلةٌ لَم يَفهَمْ مَقاطِعَ الشَّريعةِ، فإنَّ اللَّهَ تَعالى


(١) «إعلام الموقعين عن رب العالمين» (٢/ ٣٩٧، ٣٩٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>