للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غَيرُها ولا يُمكِنُ أنْ يُقالَ: هو التَّصرُّفُ؛ لأنَّ المَحجورَ عليه يَملِكُ ولا يَتصرَّفُ، فهو حينَئذٍ غيرُ التَّصرُّفِ، فالتَّصرُّفُ والمِلكُ كلُّ واحِدٍ منهما أعَمُّ من الآخَرِ من وَجهٍ، وأخَصُّ من وَجهٍ، فقد يُوجَدُ التَّصرُّفُ بدونِ المِلكِ كالوَصيِّ والوَكيلِ والحاكِمِ وغَيرِهم، يَتصرَّفونَ ولا مِلكَ لهم، ويُوجَدُ المِلكُ بدونِ التَّصرُّفِ كالصِّبيانِ والمَجانينِ وغَيرِهم يَملِكونَ ولا يَتصرَّفونَ ويَجتمِعُ المِلكُ والتَّصرُّفُ في حَقِّ البالِغينَ الراشِدينَ النافِذينَ للكَلِمةِ كامِلي الأوصافِ، وهذا هو حَقيقةُ الأعَمِّ من وَجهٍ والأخَصِّ من وَجهٍ أنْ يَجتمِعا في صُورةٍ ويَنفرِدَ كلُّ واحِدٍ منهما بنَفسِه في صُورةٍ كالحَيوانِ والأبيضِ.

والعِبارةُ الكاشِفةُ عن حَقيقةِ المِلكِ أنَّه:

«حُكمٌ شَرعيٌّ يُقدَّرُ في العَينِ أو المَنفعةِ يَقتَضي تَمكينَ مَنْ يُضافُ إليه من انتِفاعِه بالمَملوكِ والعِوضِ عنه من حيثُ هو كذلك» (١).


(١) «الفروق» (٣/ ٣٤٧)، و «مواهب الجليل» (٤/ ٢٢٣، ٢٢٥) ثم قال: أمَّا أنَّه حُكمٌ شَرعيٌّ فبالإجماع؛ ولأنَّه يَتبَعُ الأسبابَ الشَّرعيَّةَ، وأمَّا أنَّه مُقدَّرٌ؛ فلأنَّه يَرجِعُ إلى مُتعلِّقِ الإذنِ الشَّرعيِّ والتَّعلُّقُ أمرٌ عَدميٌّ ليس وَصفًا حَقيقيًّا بل يُقدَّرُ في العَينِ أو المَنفعةِ عندَ تَحقُّقِ الأسبابِ المُفيدةِ في المِلكِ، وقَولُنا في العَينِ أو المَنفَعةِ فإنَّ الأعيانَ تُملَّكُ بالبَيعِ والمَنافِعَ بالإجارةِ.
وقَولُنا يَقتَضي انتِفاعَه بالمَملوكِ لِيَخرُجَ تَصرُّفُ الوَصيِّ والوَكيلِ والقاضي.
وقَولُنا: والعِوَضُ عنه ليَخرُجَ الإباحةُ في الضِّيافاتِ فإنَّها مأذونٌ فيها، وليست مَملوكةً على الصَّحيحِ ولتَخرجَ أيضًا الاختِصاصاتُ بالمَساجدِ والرُّبُطِ ومَواضِعِ المَناسكِ ومَقاعِدِ السُّوقِ فإنَّه لا مِلكَ فيها مع التَّمكُّنِ الشَّرعيِّ من التَّصرُّفِ.
وقَولُنا من حيثُ هو كذلك إشارةٌ إلى أنَّه يَقتَضي ذلك من حيثُ هو هو، وقد يَختلِفُ لِمانِعٍ كالحَجرِ والوَقفِ إذا قُلنا: إنَّه على مِلكِ واقِفِه.
ثم قال: ذلك الانتِفاعُ دونَ المَنفَعةِ كبُيوتِ المَدارِسِ تَرجِعُ إلى الإباحةِ كما في الضِّيافةِ فهي مأذونٌ فيها لِمَنْ قام بشَرطِ الواقِفِ ولا مِلكَ فيها لغَيرِه بخِلافِ الجامِكيَّةِ فإنَّ المِلكَ مُحصَّلٌ فيها لِمَنْ حصَل له شَرطُ الواقِفِ فلا جَرَمَ صحَّ أخْذُ العِوضِ بها وعنها.
ثم قال: وهل المِلكُ من خِطابِ الوَضعِ أو من خِطابِ التَّكليفِ الذي هو من الأحكامِ الخَمسةِ والذي يَظهَرُ لي أنَّه أحَدُ الأَحكامِ الخَمسةِ وأنَّه إباحةٌ خاصَّةٌ في تَصرُّفاتٍ خاصَّةٍ، وأخْذُ العِوضِ عن ذلك المَملوكِ على وَجهٍ خاصٍّ كما تَقرَّرت قَواعِدُ المُعاوَضاتِ في الشَّريعةِ وشُروطُها وأركانُها، وخُصوصيَّاتُ هذه الإباحةِ هي المُوجِبةُ لِلفَرقِ بينَ المِلكِ وغَيرِه، ولذلك قُلنا: إنَّه مَعنًى شَرعيٌّ مُقدَّرٌ يُريدُ أنَّه مُتعلِّقُ الإباحةِ، والتَّعلُّقُ أمرٌ عَدميٌّ من بابِ النِّسبِ والإضافاتِ التي لا وُجودَ لها في الأعيانِ بل في الأذهانِ، ولِأجلِ ذلك لنا أنْ نُغيِّرَ الحَدَّ فنَقولَ: «المِلكُ إباحةٌ شَرعيَّةٌ في عَينٍ أو مَنفعةٍ يَقتَضي تَمكُّنَ صاحبِها من الانتِفاعِ بتلك العَينِ أو المَنفَعةِ وأخْذِ العِوضِ عنها من حيث هي كذلك».
فبهذا اللَّفظِ استَقامَ الحَدُّ وظهَر أنَّ المِلكَ من خِطابِ التَّكليفِ.
ومنهم من جعَله من خِطابِ الوَضعِ الذي هو نَصبُ الأسبابِ والشُّروطِ والمَوانِعِ والمَقاديرِ الشَّرعيَّةِ وليس هو منها، وإنْ كان هو سَبَبًا لِلانتِفاعِ؛ لأنَّ كلَّ حُكمٍ شَرعيٍّ سَببٌ لِمُسبَّباتٍ كَثيرةٍ كالثَّوابِ والعِقابِ. اه.
قُلتُ ويُمكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّه من خِطابِ التَّكليفِ والوَضعِ مَعًا، وقد بيَّن في الفَرقِ السادِسِ والعِشرينَ أنَّهما قد يَجتَمِعان وقد يَنفَرِدُ كلُّ واحِدٍ منهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>