والثانِي: مَعرفةُ مَداركِ الأَقوالِ، فلمَن له التَّرجيحُ تَرجيحُ ما ضُعفَ لقُوةِ المَدركِ عندَه.
والثالثُ: العَملُ به في نَفسِه إذا اقتَضتِ الضَّرورةُ ذلك (١).
وهذا هو المُعتمدُ عندَ المُتأخِّرينَ، ولكنْ يُوجدُ كَلامٌ لكَثيرٍ مِنْ عُلماءِ المالِكيةِ، قالَ ابنُ عَبدِ السلامِ: هل يَلزمُ المُقلِّدُ الاقتصارَ على قَولِ إِمامِه أم لا؟ الأَصلُ عَدمُ اللُّزومِ؛ ولأنَّ المُتقدِّمينَ لمْ يَكونوا يَحجرونَ على العوامِ اتِّباعَ عالمٍ واحدٍ، ولا يَأمرونَ مَنْ سأَلَ واحدًا منهم عن مَسألةٍ ألَّا يَسألَ غيرَه، لكنِ الأَولى في حَقِّ القاضِي لُزومُ طَريقةٍ واحدةٍ، وأنَّه إنْ قلَّدَ إِمامًا لا يَعدلُ عنه لغيرِه؛ لأنَّ ذلك يُؤدي لتُهمتِه بالمَيلِ، ولمَا جاءَ مِنْ النَّهي عن الحُكمِ في قَضيةٍ بحُكمينِ مُختلفينِ.
وقالَ ابنُ فَرحونَ: «يَلزمُ القاضِي المُقلِّدُ إذا وجَدَ المَشهورَ ألَّا يَخرجَ عنه، وقد بلَغَ المازِريُّ دَرجةَ الاجتِهادِ ولمْ يُفتِ قطُّ بغيرِ المَشهورِ، وعاشَ ثَلاثًا وثَمانينَ سَنةً، وكَفى به قُدوةً، فإنْ لمْ يَقفْ على المَشهورِ مِنْ القَولينِ أو الرِّوايتينِ فليسَ له التَّشهي والحُكمُ بما شاءَ منهما مِنْ غيرِ نَظرٍ وتَرجيحٍ، فقد قالَ ابنُ الصَّلاحِ في آدابِ المُفتي والمُستفتي: مَنْ يَكتفى بكَونِ فَتواه أو عِلمِه مُوافقًا لقَولٍ أو وَجهٍ في المَسألةِ ويَعملُ بما شاءَ مِنْ الأَقوالِ والوُجوهِ مِنْ غيرِ نَظرٍ في التَّرجيحِ فقد جهِلَ وخرَقَ الإِجماعَ.
(١) «حاشية الصاوي على الشرح الصغير» (٩/ ٢٩٧)، وينظر: «الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي» (٦/ ٤، ٥)، و «شرح مختصر خليل» (٧/ ١٤٠)، و «تحبير المختصر» (٥/ ٥٤).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute