وذهَبَ الحَنابِلةُ -ومُحمدٌ وزُفَرُ مِنْ الحَنفيةِ- إلى أنَّه لا يَصحُّ الاستِثناءُ في الإِقرارِ مِنْ غيرِ الجِنسِ؛ لأنَّ الاستِثناءَ صَرفُ اللَّفظِ بحَرفِ الاستِثناءِ عمَّا كانَ يَقتَضيه لَولاه.
وقيلَ: هو إِخراجُ بَعضِ ما تَناوَلَه المُستَثنى منه، وهو مُشتَقٌّ مِنْ «ثَنَيتُ فُلانًا عن رَأيِه» إذا صَرَفتُه عن رَأيٍ كانَ عازِمًا عليه، و «ثَنَيتُ عِنانَ دابَّتي» إذا صَرَفتُها به عن وِجهَتِها التي كانَت تَذهَبُ إليها، وغَيرُ الجِنسِ المَذكورِ ليسَ بداخِلٍ في الكَلامِ، فإذا ذكَرَه فما صرَفَ الكَلامَ عن صَوبِه ولا ثَناه عن وَجهِ استِرسالِه، فلا يَكونُ استِثناءً، وإنَّما سُمِّيَ استِثناءً تَجوُّزًا، وإنَّما هو في الحَقيقةِ استِدراكٌ و «إلا» ههُنا بمَعنى «لكنَّ» هكذا قالَ أهلُ العَربيةِ، منهم ابنُ قُتَيبةَ، وحَكاه عن سيبَويهِ، والاستِدراكُ لا يَأتي إلا بعدَ الجَحدِ، ولِذلك لم يَأتِ الاستِثناءُ في الكِتابِ العَزيزِ مِنْ غيرِ الجِنسِ إلا بَعدَ النَّفيِ، ولا يَأتي بعدَه الإثباتُ إلا أنْ يُوجَدَ بعدَه جُملةٌ.
وإذا تَقرَّرَ هذا فلا مَدخَلَ للِاستِدراكِ في الإِقرارِ لأنَّه إِثباتٌ للمُقَرِّ به، فإذا ذُكرَ الاستِدراكُ بعدَه كانَ باطِلًا، وإنْ ذكَرَه بَعدَ جُملةٍ كأنْ قالَ:«له عِندي مِئةُ دِرهَمٍ إلا ثَوبًا لي عليه»، فيَكونُ مُقِرًّا بشَيءٍ مُدَّعيًا لشَيءٍ سِواه، فيُقبَلُ إِقرارُه وتَبطُلُ دَعواه، كما لو صرَّحَ بذلك بغَيرِ لَفظِ الاستِثناءِ.
قالَ ابنُ قُدامةَ ﵀: وأمَّا قَولُه تَعالى: ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ [البقرة: ٣٤]، فإنَّ إِبليسَ كانَ مِنْ المَلائِكةِ بدَليلِ أنَّ اللَّهَ تَعالى لم يَأمُرْ بالسُّجودِ غَيرَهم، فلو لم يَكنْ منهم لما كانَ مَأمورًا بالسُّجودِ، ولا عاصيًا بتَركِه، ولا قالَ اللَّهُ تَعالى في حَقِّه: ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: ٥٠]، ولا قالَ: ﴿مَا مَنَعَكَ