لا يَصحُّ انعِقادُها إلا في مَسجدٍ واحدٍ. ولأنَّه مِصرٌ انعَقدَت فيه الجمُعةُ، فوجَبَ ألَّا يَنعقِدَ فيه غيرُها، كالجمُعةِ الثَّالثةِ، ولأنَّ اللهَ تَعالى أمَرَ بالسَّعيِ عندَ إِقامتِها، فلو جازَت إِقامتُها في مَوضعَينِ لوجَبَ عليه السَّعيُ إليهما؛ إذ ليسَ أحدُهما أَولى بالسَّعيِ إليه مِنْ الآخَرِ، وسَعيُه إليهما مُستَحيلٌ، وإلى أَحدِهما غيرُ جائِزٍ، فدلَّ على فَسادِه، ولأنَّ الجمُعةَ مِنْ الأُمورِ العامَّةِ التي شُرِطَ فيها العددُ والجَماعةُ، فوجَبَ ألَّا تَنعقِدَ في مَوضعَينِ، كما لا تَنعقِدُ البَيعَةُ لِإمامَينِ.
إذا ثبَتَ ما ذكَرْنا فالبِلادُ على ثَلاثةِ أضرُبٍ:
أحدُها: ما كانَ مُدنًا مُتقارِبةً وقُرًى مُتَدانِيةً، اتَّصلَ بُنيانُها، واجتَمعَت مَساكِنُها كبَغدادَ؛ فيَجوزُ أن تُقامَ فيه الجمُعةُ في مَوضعَينِ وأكثرَ اعتِبارًا بحُكمِ أهلِها، وقد دخَلَ الشافِعيُّ بَغدادَ، فلم يُنكِرْ ذلك عليهم.
والضَّربُ الثاني مِنْ البِلادِ: ما كانَ مِصرًا لم يُضمَّ إليه غيرُه، ويُمكِنُ جَميعَهم إقامةُ الجمُعةِ في مَوضعٍ منه كالكُوفةِ، فهذا الذي لا يَجوزُ أن تُقامَ الجمُعةُ في مَوضعَينِ منه.
والضَّربُ الثَّالثُ مِنْ البِلادِ: ما كانَ مِصرًا لم يُضَمَّ إليه غيرُه، ولكِن لا يُمكِنُ جَميعَهم إقامةُ الجمُعةِ في مَوضعٍ واحدٍ منه؛ لسَعتِه وكَثرةِ أهلِه كالبَصرةِ؛ فقدِ اختَلفَ أَصحابُنا في إقامةِ الجمُعةِ في مَوضعَينِ منه على وجهَينِ:
أحدُهما: لا يَجوزُ؛ لمَا سبَقَ مِنْ الدِّلالةِ، ويُصلِّي الناسُ إذا ضاقَ بهم في الشَّوارِعِ والأفنِيةِ.