للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأما إنْ تابَ بعدَ القُدرةِ عليه لم يَسقطْ عنه شَيءٌ مِنْ الحُدودِ؛ لقولِ اللهِ تعالَى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ٣٤]، فأوجَبَ عليهِم الحَدَّ ثمَّ استَثنَى التائبِينَ قبلَ القُدرةِ، فمَن عَدَاهم يَبقى على قَضيةِ العُمومِ، ولأنه إذا تابَ قبلَ القُدرةِ فالظاهرُ أنها تَوبةُ إخلاصٍ، وبعدَها الظاهرُ أنها تَقيَّةٌ مِنْ إقامةِ الحَدِّ عليه، ولأنَّ في قَبولِ تَوبتِه وإسقاطِ الحَدِّ عنه قبلَ القُدرةِ تَرغيبًا في تَوبتِه والرجوعِ عن مُحارَبتِه وإفسادِه، فناسَبَ ذلك الإسقاطَ عنه، وأما بعدَها فلا حاجَةَ إلى تَرغيبِه؛ لأنه قد عجَزَ عن الفَسادِ والمُحارَبةِ (١).

وقالَ الإمامُ القُرطبيُّ : قولُه تعالَى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ٣٤]، استثنى ﷿ التائبينَ قبلَ أنْ يُقدَرَ عليهِم، وأخبَرَ بسُقوطِ حقِّه عنهُم بقَولِه: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)[المائدة: ٣٤].

أما القِصاصُ وحُقوقُ الآدميِّينَ فلا تَسقطُ، ومَن تابَ بعدَ القُدرةِ فظاهرُ الآيةِ أنَّ التوبةَ لا تَنفعُ وتُقامُ الحُدودُ عليهِ كما تَقدَّمَ، وللشافِعيِّ قولٌ أنه يَسقطُ كلُّ حَدٍّ بالتوبةِ، والصَّحيحُ مِنْ مَذهبِه أنَّ ما تَعلَّقَ به حَقُّ الآدَميِّ قِصاصًا كانَ أو غيرَه فإنه لا يَسقطُ بالتوبةِ قبلَ القُدرةِ عليهِ، وقيلَ: «أرادَ بالاستِثناءَ المُشركَ إذا تابَ وآمَنَ قبلَ القُدرةِ عليهِ، فإنه تَسقطُ عنه الحُدودُ»، وهذا ضَعيفٌ؛ لأنه إنْ آمَنَ بعدَ القُدرةِ عليه لم يُقتلْ أيضًا بالإجماعِ.


(١) «المغني» (٩/ ١٢٩، ١٣٠)، و «شرح الزركشي» (٣/ ١٤٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>