والثَّاني: أنه لو قصَدَ هذا لم يُؤمَرْ بطلاقِها، ولأُمِرَ بحَبسِ مالِه عنها، ورُويَ أنَّ اليهودَ كانَتْ تَقولُ لرسولِ اللهِ ﷺ:«مُذَمَّمًا عَصَينا، وأمْرَه أَبيْنا»، فقالَ النبيُّ ﷺ:«أمَا تَرَونَ كيفَ عصَمَني اللهُ مِنهُم، إنهم يَسبُّونَ مُذَمَّمًا وأنا مُحمَّدٌ»، فلمْ يَجعلْ تَعريضَهم به صَريحًا، ولأنَّ اللهَ تعالى أحَلَّ التعريضَ بالخِطبةِ وقد حرَّمَ صَريحَها، فدَلَّ على اختِلافِ حُكمِ التَّعريضِ والتَّصريحِ.
ويَدلُّ عليهِ عن طَريقِ المعنَى: أنَّ كلَّ ما كانَ كِنايةً في الرِّضى كانَ كِنايةً في الغضَبِ كالكِناياتِ في الطلاقِ، وأنَّ كلَّ ما لو نسَبَه إلى نفْسِه لم يَكنْ إقرارًا بالزنا وجَبَ إذا نسَبَه إلى غيرِه أنْ لا يَكونَ قذفًا بالزِّنا؛ قِياسًا على حالِ الرِّضى؛ لأنه لو قالَ لنَفسِه:«أنَا ما زَنَيتُ» لم يكنْ إقرارًا، كذلكَ إذا قالَ لغيرِه:«أنا ما زَنَيتُ» لم يَكنْ قَذفًا (١).
وذهَبَ المالِكيةُ والحَنابلةُ إلى أنَّ كنايةَ القَذفِ والتَّعريضَ به تَعريضًا يُفهَمُ منه أنه أرادَه فعَليهِ الحدُّ وحُكمُه حُكمُ الصريحِ، وذلكَ مَعلومٌ بشاهدِ الحالِ ومَخارجِ الكَلامِ والأسبابِ؛ لأنه لفظٌ يُفهَمُ منه القذفُ، فوجَبَ أنْ يكونَ قَذفًا، أصلُه التَّصريحُ، فإذا لم يُفهَمْ ذلكَ فلا خِلافَ أنه لا حَدَّ فيه ولا يَكونُ تَعريضًا، كما لو قالَ له:«يا زانٍ، فقالَ لهُ: أنعَمَ اللهُ صَباحَكَ، أو أنتَ سَخيٌّ كَريمٌ» أو ما أشبَهَ ذلكَ مِنْ الكلامِ الأجنَبيِّ عمَّا هُما فيه، ويُبيِّنُ ما قُلنَا أنَّ عُرفَ التخاطُبِ يَنفِي ما قالُوه؛ لأنَّ أهلَ اللُّغةِ يُسمُّونَ التعريضَ لِمَا يُفهَمُ