قالَ الإمامُ الكاسانِيُّ ﵀: إنَّ المُسلمَ إذا زنَى في دارِ الحَربِ أو سرَقَ أو شَربَ الخَمرَ أو قذَفَ مُسلمًا لا يُؤخَذُ بشَيءٍ مِنْ ذلكَ؛ لأنَّ الإمامَ لا يَقدرُ على إقامةِ الحُدودِ في دارِ الحَربِ لعَدمِ الوِلايةِ.
ولو فعَلَ شَيئًا مِنْ ذلكَ ثم رجَعَ إلى دارِ الإسلامِ لا يُقامُ عليهِ الحَدُّ أيضًا؛ لأنَّ الفِعلَ لم يقَعْ مُوجِبًا أصلًا، ولو فعَلَ في دارِ الإسلامِ ثمَّ هرَبَ إلى دارِ الحَربِ يُؤخَذُ به؛ لأنَّ الفِعلَ وقَعَ مُوجِبًا للإقامةِ، فلا يَسقطُ بالهَربِ إلى دارِ الحربِ، وكذلكَ إذا قتَلَ مُسلِمًا لا يُؤخَذُ بالقِصاصِ وإنْ كانَ عَمدًا؛ لتعذُّرِ الاستيفاءِ إلا بالمَنعةِ؛ إذِ الواحِدُ يُقاوِمُ الواحِدَ والمَنعةُ مَنعدِمةٌ، ولأنَّ كونَه في دارِ الحَربِ أورَثَ شُبهةً في الوُجوبِ، والقِصاصُ لا يَجبُ مع الشُّبهةِ، ويَضمنُ الديَةَ خطَأً كانَ أو عَمدًا، وتكونُ في مالِه لا على العاقِلةِ؛ لأنَّ الديَةَ تَجبُ على القاتِلِ ابتِداءً، أو لأنَّ القتلَ وُجدَ منهُ، ولهذا وجَبَ القِصاصُ والكفَّارةُ على القاتلِ لا على غيرِه، فكذا الديَةُ تَجبُ عليهِ ابتداءً -وهو الصَّحيحُ-، ثمَّ العاقِلةُ تَتحمَّلُ عنه بطَريقِ التعاوُنِ؛ لِمَا يَصلُ إليه بحَياتِه مِنْ المنافعِ مِنْ النُّصرةِ والعِزِّ والشرفِ بكَثرةِ العَشائرِ والبِرِّ والإحسانِ لهُم ونحوِ ذلكَ، وهذهِ المعاني لا تَحصلُ عندَ اختلافِ الدارَينِ، فلا تَتحمَّلُ عنه العاقِلةُ، وكذلكَ لو كانَ أميرًا على سَريةٍ أو أميرَ جيشٍ وزنَا رَجلٌ منهُم أو سرَقَ أو شَربَ الخَمرَ أو قتَلَ مُسلمًا خطَأً أو عَمدًا لم يأخُذْه الأميرُ بشَيءٍ مِنْ ذلكَ؛ لأنَّ الإمامَ ما فُوِّضَ إليه إقامةُ الحُدودِ والقِصاصِ؛ لعِلمِه أنه لا يَقدرُ على إقامتِها في دارِ الحربِ، إلا أنه يُضمِّنُه السَّرقةَ إنْ كانَ استَهلكَها، ويُضمِّنُه الديَةَ في بابِ القتلِ؛ لأنه يَقدرُ على استِيفاءِ ضَمانِ المالِ.