للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ودَلالةُ الحالِ على ما وصَفْنا أنه مَعلومٌ أنَّ حالَ الإكراهِ هي حالُ خَوفٍ وتَلفِ النفسِ، والانتِشارُ والشَّهوةُ يُنافيهِما الخوفُ والوجَلُ، فلمَّا وُجدَ منه الانتِشارُ والشَّهوةُ في هذهِ الحالِ عُلِمَ أنه فعَلَه غيرَ مُكرَهٍ؛ لأنه لو كانَ مُكرَهًا خائفًا لَمَا كانَ منه انتِشارٌ ولا غلَبَتْه الشهوةُ، وفي ذلكَ دَليلٌ على أنَّ فِعلَه ذلكَ لم يَقعْ على وَجهِ الإكراهِ، فوجَبَ الحَدُّ.

قالَ أبو بكرٍ الجصَّاصُ : فإنْ قيلَ: إنَّ وُجودَ الانتشارِ لا يُنافِي ترْكَ الفعلِ، فعَلِمْنا حينَ فعَلَ مع ظُهورِ الإكراهِ أنه فعَلَه مُكرَهًا كشُربِ الخَمرِ والقَذفِ ونحوِه.

قيلَ له: هذا لعَمْرِي هكذا، ولكنَّه لمَّا كانَ في العادةِ أنَّ الخوفَ على النَّفسِ يُنافِي الانتشارَ دَلَّ ذلكَ على أنه فعَلَه طائِعًا، أَلَا ترَى أنَّ مَنْ أُكرِهَ على الكُفرِ فأقَرَّ أنه فعَلَه طائِعًا كانَ كافرًا مع وُجودِ الإكراهِ في الظاهِرِ، كذلكَ الحالُ الشاهِدةُ بالتطوُّعِ هي بمَنزلةِ الإقرارِ منهُ بذلكَ، فيُحَدُّ (١).

وذهَبَ الشافِعيةُ في المَذهبِ والصاحِبانِ مِنْ الحَنفيةِ أبو يُوسفَ ومُحمدٌ -والفَتوَى على قولِهما- والمالِكيةُ في قَولٍ عليهِ أكثَرُ المُحقِّقينَ في المَذهبِ كاللَّخميِّ وابنِ رُشدٍ وابنِ العرَبيِّ والحَنابلةُ في رِوايةٍ صحَّحَها ابنُ قُدامةَ إلى أنَّ الرَّجلَ إذا أُكرِهَ على الزِّنا لا حَدَّ عليه كالمَرأةِ؛ لقولِ النبيِّ : «ادرَؤُوا الحُدودُ بالشُّبهاتِ» (٢)، والإكراهُ مِنْ أعظَمِ الشُّبهاتِ،


(١) «أحكام القرآن» (٥/ ٩٩)، و «تحفة الفقهاء» (٣/ ٢٧٥)، و «الاختيار» (٢/ ١٣٠)، و «الجوهرة النيرة» (٦/ ٢٤٩، ٢٥٠)، و «اللباب» (٢/ ٥١٨).
(٢) حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: رواه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٦٨/ ١٩١).

<<  <  ج: ص:  >  >>