للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فذهَبَ الإمامُ أبو حَنيفةَ إلى أنه إنْ أكرَهَه غيرُ سُلطانٍ حُدَّ، وإنْ أكرَهَه سُلطانٌ لم يُحَدَّ، وإنْ كانَ القياسُ عندَ أبي حَنيفةَ أنْ يُحَدَّ سواءٌ أكرَهَه سُلطانٌ أو غيرُه، ولكنَّه ترَكَ القِياسَ في إكراهِ السُّلطانِ؛ لأنَّ الإكراهَ لا يُتصوَّرُ في الزنا؛ لأنَّ الوطءَ لا يُمكِنُ إلا بالانتِشارِ، وهو لا يَكونُ مع الخَوفِ، وإنما يَكونُ مع اللَّذةِ وسُكونِ النَّفسِ والاختِيارِ له، فكأنهُ زنَى باختِيارِه، وليسَ كذلكَ المرأةُ إذا أُكرِهتْ على الزنا، فإنها لا تُحَدُّ؛ لأنه ليسَ منها إلا التَّمكينُ، وذلكَ يَحصلُ مع الإكراهِ.

ويَحتملُ قولُه في إكراهِ السُّلطانِ مَعنيَينِ:

أحَدُهما: أنْ يُريدَ بهِ الخَليفةَ، فإنْ كانَ قد أرادَ هذا فإنما أسقَطَ الحَدَّ لأنه قد فسَقَ وانعَزلَ عن الخِلافةِ بإكراهِه إياهُ على الزنا، فلمْ يبْقَ هناكَ مَنْ يُقيمُ الحَدَّ عليهِ، والحَدُّ إنما يُقِيمُه السُّلطانُ، فإذا لم يَكنْ هُناكَ سُلطانٌ لم يُقَمِ الحدُّ، كمَن زنَى في دارِ الحَربِ.

ويَحتملُ أنْ يُريدَ به مَنْ دونَ الخَليفةِ، فإنْ كانَ أرادَ ذلكَ فوجْهُه أنَّ السُّلطانَ مأمورٌ بالتوصُّلِ إلى دَرءِ الحدِّ، فإذا أكرَهَه على الزنا فإنما أرادَ التوصُّلَ إلى إيجابِه، فلا تَجوزُ له إقامَتُه إذًا؛ لأنه بإكراهِهِ أرادَ التوصُّلَ إلى إيجابِه، فلا يَجوزُ له ذلكَ ويَسقطُ الحَدُّ.

وأمَّا إذا أكرَهَه غيرُ سُلطانٍ فإنَّ الحَدَّ واجبٌ؛ وذلكَ لأنه مَعلومٌ أنَّ الإكراهَ يُنافي الرِّضا، وما وقَعَ عن طَوعٍ ورِضًا فغيرُ مُكرَهٍ عليهِ، فلمَّا كانَتِ الحالُ شاهِدةً بوُجوبِ الرِّضا منه بالفعلِ دَلَّ ذلكَ على أنه لم يَفعلْه مُكرَهًا،

<<  <  ج: ص:  >  >>