ومِن جِهةِ النظرِ أيضًا أنَّا قد بيَّنَّا أنَّ هذه الفُرقةَ مُتعلِّقةٌ بحُكمِ الحاكمِ، وكُلُّ فُرقةِ تَعلقَتْ بحُكمِ الحاكمِ فإنها لا تُوجبُ تَحريمًا مُؤبَّدًا، والدَّليلُ على ذلكَ أنَّ سائرَ الفُرَقِ التي تَتعلقُ بحُكمِ الحاكمِ لا تُوجبُ تَحريمًا مُؤبَّدًا مثلَ فُرقةِ العِنِّينِ وخيارِ الصَّغيرينِ … وكذلكَ سائرُ الفُرَقِ المُتعلقةِ بحُكمِ الحاكمِ في الأصولِ هذه سَبيلُها.
ولأنَّ سَببَ هذه الفُرقةِ قَذفُ الزوجِ؛ لأنه يُوجِبُ اللعانَ، واللعانَ يُوجِبُ التفريقَ، والتفريقَ يُوجبُ الفُرقةَ، فكانَتِ الفُرقةُ بهذه الوَسائطِ مُضافةً إلى القَذفِ السابقِ، وكُلُّ فُرقةٍ تكونُ مِنْ الزوجِ أو يَكونُ فِعلُ الزَّوجِ سَببَها تكونُ طَلاقًا كما في العِنِّينِ والخُلعِ والإيلاءِ ونحوِ ذلكَ.
وأمَّا الحَديثُ فلا يُمكِنُ العَملُ بحَقيقتِه؛ لِمَا ذكَرْنا أنَّ حَقيقةَ المُتفاعِلِ هو المُتشاغِلُ بالفِعلِ، ولمَّا فرَغَا مِنْ اللعانِ ما بَقيَا مُتلاعنَينِ حَقيقةً، فانصَرفَ المُرادُ إلى الحُكمِ، وهو أنْ يَكونَ حُكمُ اللِّعانِ فيهِما ثابتًا.
فإذا أكذَبَ الزَّوجُ نفْسَه وحُدَّ حَدَّ القَذفِ بطَلَ حُكمُ اللِّعانِ، فلمْ يَبْقَ مُتلاعنًا حَقيقةً وحُكمًا، فجازَ اجتِماعُهما.
ونَظيرُه قَولُه تعالَى في قصَّةِ أصحابِ الكهفِ: ﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (٢٠)﴾ [الكهف: ٢٠]، أي: ما دامُوا في مِلَّتِهم، ألَا ترَى أنهُم إذا لم يَفعلُوا يُفلِحوا، فكَذا هَذا (١).
(١) «شرح مشكل الآثار» (٣/ ٣٠٣، ٣٠٨)، و «أحكام القرآن» (٥/ ١٥٥، ١٥٨)، و «بدائع الصنائع» (٣/ ٢٤٦)، و «المحيط البرهاني» (٤/ ٦٥)، و «الجوهرة النيرة» (٤/ ٥٦٤).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute