هذِه حالُ الغَضبانِ، فإنَّه لم يَقصِدْ حقيقةَ ما تَكلَّمَ بهِ ومُوجَبَه، بلْ جَرَى على لسانِه كما جَرى كلامُ النَّاسي على لِسانِه، بل قصدُ النَّاسي للتَّكلُّمِ أظهَرُ مِنْ قَصدِ الغَضبانِ، ولهذا يقولُ النَّاسِي: «قَصدتُ أنْ أقولَ كذا وكذا»، والغَضبانُ يَحلِفُ أنه لم يَقصِدْ.الوجهُ التَّاسعُ: أنَّ القُصُودَ في العُقودِ مُعتبَرةٌ في عَقدِها كلِّها، والغَضبانُ ليسَ لهُ قصدٌ مُعتبَرٌ في حَلِّ عُقدةِ النِّكاحِ، كما ليسَ لهُ قصدٌ في قتلِ نفسِه ووَلدِه وإتلافِ مالِه، فإنَّه يَفعلُ في الغَضبِ هذا ويَقولُ هذا، فإذَّا لم يكنْ لهُ قصدٌ مُعتبَرٌ لم يَصحَّ طلاقُه.فإنْ قيلَ: فهذا يَنتقِضُ عليكُم بالهازِلِ؛ فإنَّه يَصِحُّ طلاقُه وإنْ لَم يكنْ لهُ فيهِ قصدٌ.قيلَ: الفرْقُ بيْنَهما أنَّ الهازِلَ قصَدَ التَّكلُّمَ باللَّفظِ وأرادَهُ رِضًا واختيارًا منهُ، لم يُحمَلْ على التَّلفظِ به، وغايَتُه أنه لَم يُرِدْ حُكمَه ومُوجَبَه، وذلكَ إلى الشَّارعِ ليسَ إليهِ، فالسَّببُ الَّذي إليهِ قد أتَى به اختيارًا وقصدًا معَ عَلمِه به، لَم يُحمَلْ عليهِ، والسَّببُ الَّذي إلى المُشرِّعِ ليسَ إِليه فلا يَصِحُّ اعتبارُ أحدِهما بالآخَرِ، وكيفَ يُقاسُ الغَضبانُ على المُتَّخِذِ آياتِ اللهِ هُزؤًا؟! وهذا مِنْ أفسَدِ القياسِ.الوَجهُ العاشِرُ: أنَّ الغَضبَ مَرضٌ مِنَ الأمراضِ وداءٌ مِنَ الأدواءِ، فهو في أمراضِ القُلوبِ نَظيرُ الحمَّى والوَسواسِ والصَّرَعِ في أمراضِ الأبدانِ، فالغَضبانُ المَغلوبُ في غَضبِه كالمَريضِ والمَحمومِ والمَصروعِ المَغلوبِ في مرَضِه والمُبرسَمِ المَغلوبِ في برسامِهِ.وهذا قِياسٌ صَحيحٌ في الغَضبانِ الَّذي قد اشتَدَّ بهِ الغَضبُ حتَّى لا يَعلمُ ما يقولُ، وأمَّا إذا كانَ يَعلمُ ما يَقولُ ولكنْ يَتكلَّمُ به حرَجًا وضِيقًا وغَلقًا لا قصدًا للوقوعِ فهوَ يُشبِهُ المُبرسَمَ والهاجِرَ مِنْ الحمَّى مِنْ وَجهٍ، ويُشبهُ المُكرَهَ القاصِدَ للتكلُّمِ مِنْ وَجهٍ، ويُشبهُ المُختارَ =
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute