يلَ: لا رَيبَ أنَّهما يَفترقانِ في هذا الوجهِ، ولكنْ لا يُوجِبُ ذلكَ أنْ يكونَ الغَضبانُ مُختارًا مُريدًا لِمَا قالَه أو فعَلَه، بل هو أَكرَهُ شيءٍ إليهِ، وهذا أمرٌ لا يُمكِنُ دفْعُه. فإنْ قيلَ: فما الحامِلُ لهُ على فِعلِ ما يَكرَهُه ويُؤذِيه، مِنْ غَيرِ أنْ يَتوصَّلَ به إلى ما هو أحبُّ إليهِ منهُ؟ قيلَ: لمَّا كانَ الغَضبُ عَدوَّ العَقلِ، وهو لهُ كالذِّئبِ للشَّاةِ، قَلَّما يتَمكَّنُ منه إلَّا اغتالَ عقْلَهُ، فقصَدَ إزالةَ الغَضبِ وإطفاءَ نارِه، وهذا مَقصودٌ صَحيحٌ في نَفسِه، لكنْ لمَّا غابَ عنهُ عقْلُه قصَدَ إزالةَ ذلكَ -ممَّا فيه ضَررٌ عليهِ- ليُخفِّفَ عن نَفسِه ما هو فيهِ مِنَ البلاءِ، ولولا ذلكَ لم يَفعلْ ما لا يَفعَلُه في الرِّضا، ولا تَكلَّمَ بما لم يَكنْ يَتكلَّمُ به، فهو قصَدَ أنْ يَستريحَ ويَسكُنَ ويَبْرُدَ غَضبُه بتلكَ الأقوالِ والأفعالِ، وإنْ لم يَدفَعْ ذلكَ عنهُ بجُملتِه تلكَ الشَّدةَ، فإنَّها تُخفِّفُ وتُضعِفُ، فاقتَضتْ رَحمةُ الشَّارعِ به أنْ ألغَى أقوالَهُ في هذهِ الحالِ؛ إذْ يُمكِنُ أنْ لا يَترتَّبَ عليها أثَرُها، وتكونُ كأقوالِ المُبرسَمِ والمَجنونِ الهاجِرِ ونَحوِهما، وأمَّا الأفعالُ فلا يُمكنُ إلغاءُ أثَرِها؛ فرتَّبَ عليهِ مُوجَبَ فعلِه. الوَجهُ الثَّامِنُ: أنَّ النَّبيَّ ﷺ شرَعَ للغَضبانِ أنْ يقولَ: «أَعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ»، وأنْ يَتوضَّأَ، وأنْ يَتحوَّلَ عن حالَتِه، فإنْ كانَ قائِمًا فلْيَقعُدْ، وإذا كانَ قاعِدًا فلْيَضطَجِعْ، قالَ: «إنَّ الغَضبَ مِنَ الشَّيطانِ، وإنَّ الشَّيطانَ مِنَ النَّارِ، وإنَّما تُطفَأُ النَّارُ بالماءِ، فإذا غَضِبَ أحدُكم فلْيَتوضَّأْ»، وهذا يَدلُّ على أنهُ مَحمولٌ عليهِ مِنْ غيرِه، وأنَّ الشَّيطانَ يُغضِبُه ليَحمِلَه بغَضبِه على فِعلِ ما يُحبُّه الشَّيطانُ وعلى التَّكلُّمِ به، وما يُضافُ إلى الشَّيطانِ ممَّا يَكرَهُه العَبدُ ولا يُحبُّه فلا يُؤاخَذُ به الإنسانُ، كالوَسوسةِ والنِّسيانِ، كما قالَ فتَى مُوسَى لمُوسَى: ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الكهف: ٦٣]. فاللهُ تعالى لا يُؤاخِذُ بالوَسوسةِ ولا بالنِّسيانِ؛ إذ هُما مِنْ أثَرِ فِعلِ الشَّيطانِ في القَلبِ، وقد =