للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= للغَضبانِ على التَّكلُمِ به؛ فإنَّ المُتكلِّمَ مُكرَهًا إنَّما يَقصِدُ الاستِراحةَ مِنْ تَوقُّعِ ما أُكرِهَ به إنْ لم يُباشِرْ به، أو مِنْ حُصولِه إنْ كانَ قد باشرَهُ شيءٌ منهُ، فيَتكلَّمُ بالطَّلاقِ قاصِدًا لراحتِه مِنْ ألَمِ ما أُكرِهَ به.
هكذا الغَضبانُ، فإنهُ إذا اشتَدَّ به الغَضبُ يَألَم بحَملِه، فيقولُ ما يقولُ ويَفعلُ ما يَفعلُ؛ ليَدفعَ عن نَفسِه حَرارةَ الغَضبِ فيَستريحَ بذلكَ، وكذلكَ يَلطُمُ وَجهَه ويَصيحُ صِياحًا قَويًّا ويَشقُّ ثِيابَه ويُلقي ما في يَدِه؛ دَفعًا لألمِ الغَضبِ وإلقاءً لحِملِه عنهُ، وكذلكَ يَدعُو على نَفسِه وأحبِّ النَّاسِ إليه، فهو يَتكلَّمُ بصيغةِ الطَّلبِ والاستدعاءِ والدُّعاءِ وهو غَيرُ طالبٍ لذلكَ في الحقيقةِ، فكذلكَ يَتكلَّمُ بصيغةِ الإنشاءِ وهوَ غَيرُ قاصِدٍ لمَعناها.
ولهذا يَأمُرُ المُلوكُ وغَيرُهم عِنْدَ الغَضبِ بأمورٍ يَعلَمُ خَواصُّهم أنَّهم تَكلَّمُوا بها دَفعًا لحَرارةِ الغَضبِ، وأنَّهم لا يُريدُونَ مُقتَضاها، فلا يَمتثِلُه خَواصُّهم بلْ يُؤخِّرونَه، فيَحمَدُونَهم على ذلكَ إذا سكَنَ غَضبُهم.
وكذلكَ الرَّجلُ وقتَ شدَّةِ الغَضبِ يَقومُ ليَبطِشَ بولدِه أو صَديقِه فيَحولُ غَيرُه بيْنَه وبيْنَ ذلكَ، فيَحمَدُهم بعْدَ ذلكَ، كما يَحمدُ السَّكرانُ والمَحمومُ ونَحوُهما مَنْ يَحولُ بيْنَه وبيْنَ ما يَهمُّ بفِعلِه في تلكَ الحالةِ.
الوَجهُ الرَّابعُ: أنَّ العاقِلَ لا يَستَدعي الغَضبَ ولا يُريدُه، بلْ هو أَكرَهُ شيءٍ إليهِ، وهو كما قالَ النَّبيُّ : «جَمرَةٌ في قَلبِ ابنِ آدمَ، أمَا رَأيْتُم مِنْ احمرارِ عَينَيهِ وانتِفاخِ أَوداجِه؟!». والعاقِلُ لا يَقصدُ إلقاءَ الجَمرةِ في قَلبِه، فهو ناشِئٌ فيهِ بغَيرِ اختيارِه، وإذا كانَ هو السَّببَ الحامِلَ على التَّكلُّمِ بالطَّلاقِ وغَيرِه لم يَكنْ ذلكَ أيضًا مُضافًا إلى اختيارِه وإرادتِه، وهذا كما أنَّ إرادةَ السَّببِ إرادةٌ للمُسبَّبِ، فكَراهةُ السَّببِ وبُغضُه كَراهةٌ للمُسبِّبِ.
يُوضِّحُه الوَجهُ الخامِسُ: وهو أنَّك تَقولُ للغضبانِ إذا اشتَدَّ غَضبُه ففعَلَ ما لم يَكنْ يَفعلُه أو تَكلَّمَ ما لم يَكنْ يَتكلَّمُ بهِ قبلَ الغَضبِ: هلْ أردتَ ذلكَ أو قَصدتَه؟ فيَحلفُ أنَّه ما أرادَه ولا قصَدَه، ولا كانَ لهُ باختيارٍ، ويَحلفُ أنَّه =

<<  <  ج: ص:  >  >>