للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= والسُّكرُ نَوعانِ: سُكرُ طَرَبٍ، وسُكرُ غَضبٍ، وقد يَكونُ هذا أشدَّ، وقَد يكونُ الآخَرُ أشدَّ، فإذا اشتَدَّ بهِ الغَضبُ حتَّى صارَ كالسَّكرانِ كانَ أَولَى بعَدمِ وُقوعِ الطَّلاقِ منهُ؛ لأنهُ يُعذَرُ ما لا يُعذَرُ السَّكرانُ، ويَبلغُ بهِ الغَضبُ أشدَّ ما يَبلغُ بهِ السُّكرُ، كما يُشاهَدُ مِنْ حالِ السَّكرانِ والغَضبانِ.
أمَّا الاعتبارُ وأُصولُ الشَّريعةِ، فمِن وُجوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ المُؤاخَذةَ إنَّما تَرتَّبتْ على الأقوالِ؛ لكَونها أدلَّةً على ما في القَلبِ مِنْ كَسْبِه وإرادتِه، كما قالَ تعالَى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٥]، فجعَلَ سبَبَ المُؤاخَذةِ كَسْبَ القلبِ، وكَسبُهُ هو إرادتَهُ وقصدُه، ومَن جرَى على لسانِه الكَلامُ مِنْ غَيرِ قصدٍ واختيارٍ، بلْ لشدَّةِ غَضبٍ وسُكرٍ أو غَيرِ ذلكَ؛ لم يَكنْ مِنْ كَسبِ قَلبِه، ولهذا لم يُؤاخذِ اللهُ سبحانَه الَّذي اشتَّد فَرَحُه بوُجودِ راحِلتِه بعدَ الإياسِ مِنها، فلمَّا وجَدَها أخطأَ مِنْ شدَّةِ الفرَحِ وقالَ: اللَّهمَّ أنتَ عَبدِي وأنا ربُّكَ، فجَرى هذا اللَّفظُ على لِسانِه مِنْ غَيرِ قصدٍ، فلم يُؤاخِذْه بهِ، كما يَجرِي الغلَطُ في القُرآنِ على لِسانِ القارِئِ.
لكنْ، قَدْ يُقالُ: هذا قصَدَ الصَّوابَ فأخطأَ، فلم يُؤاخَذْ؛ إذْ كانَ قصَدَ ضدَّ ما تَكلَّمَ بهِ، بخِلافِ الغَضبانِ إذا طلَّقَ، فإنهُ قاصِدٌ للطَّلاقِ.
قيلَ: لا كَلامَ في الغَضبانِ العالِمِ بما يَقولُ، القاصِدِ المُختارِ لحُكمِهِ دَفعًا لمَكروهِ البَقاءِ معَ الزَّوجةِ، وإنَّما الكَلامُ في الَّذي اشتَدَّ غَضَبُه حتَّى ألجأَهُ الشَّيطانُ إلى التَّكلُّمِ بما لَم يَكُنْ مُختارًا للتَّكلمِ بهِ، كما يُلجِئُه إلى فِعلِ ما لم يَكنْ لولا الغَضب يَفعلُه.
يُوضِّحُه الوَجهُ الثَّاني: وهو أنَّ الإرادةَ فيهِ هوَ مَحمولٌ عليها، مُلجَأٌ إليها كالمُكرَهِ، بل المُكرَهُ أحسنُ حالًا منهُ؛ فإنَّ لهُ قَصدًا وإرادةً حَقيقةً، لكنْ هوَ مَحمولٌ عليهِ، وهذا ليسَ لهُ قَصدٌ في الحَقيقةِ، فإذا لَم يَقعْ طلاقُ المُكرَهِ فطلاقُ هذا أَولَى بعَدمِ الوُقوعِ.
يُوضِّحُه الوجهُ الثَّالثُ: وهو أنَّ الأمرَ الحامِلَ للمُكرَهِ على التَّكلُّمِ بالطَّلاقِ يُشبِهُ الحاملَ =

<<  <  ج: ص:  >  >>