قيلَ: هذا الحديثُ رواهُ عليُّ بنُ أبي طالبٍ ﵁ مُحتَجًّا بهِ على ابنِ عمِّه عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ في المَسألتَينِ، فإنه كانَ يُبيحُ المتعةَ ولحومَ الحُمُرِ، فناظَرَه عليُّ بنُ أبي طالبٍ في المَسألتَينِ ورَوى لهُ التَّحريمَينِ، وقيَّدَ تحريمَ الحُمُرِ بزمنِ خيبَرَ، وأطلَقَ تَحريمَ المتعةِ، وقالَ: «إنَّكَ امرؤٌ تائهٌ، إنَّ رسولَ اللهِ ﷺ حرَّمَ المتعَة وحرَّمَ لحومَ الحُمُرِ الأهليةِ يومَ خيبَرَ»، كما قالَه سُفيانُ بنُ عُيينةَ، وعليهِ أكثرُ النَّاسِ، فرَوى الأمرَينِ مُحتجًّا عليهِ بهمَا لا مُقيِّدًا لهُما بيومِ خيبَرَ، واللهُ المُوفِّقُ.ولكنْ هاهُنا نظرٌ آخَرُ، وهوَ أنه هل حرَّمَها تحريمَ الفواحِشِ الَّتي لا تُباحُ بحالٍ؟ أو حرَّمَها عندَ الاستِغناءِ عَنها وأباحَها للمُضطرِّ؟ هذا هو الذي نظرَ فيهِ ابنُ عبَّاسٍ وقالَ: «أنا أبحْتُها للمضطرِّ كالميتةِ والدَّمِ»، فلمَّا توسَّعَ فيها مَنْ توسَّعَ ولم يَقفْ عندَ الضَّرورةِ أمسَكَ ابنُ عبَّاسٍ عنِ الإفتاءِ بحِلِّها ورجَعَ عنه، وقدْ كانَ ابنُ مَسعودٍ يَرى إباحتَها ويَقرأُ ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٧]، ففي الصَّحيحَينِ عنه قالَ: «كنَّا نَغزُو معَ رسولِ اللهِ ﷺ وليسَ لنا نِساءٌ فقُلنَا: ألَا نَختَصِي؟ فنَهانا، ثمَّ رخَّصَ لنا أنْ ننكِحَ المرأةَ بالثَّوبِ إلى أجَلٍ، ثمَّ قرأَ عبدُ اللهِ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)﴾ [المائدة: ٨٧]، وقِراءةُ عبدِ اللهِ هذهِ الآيةَ عَقيبَ هذا الحَديثِ يَحتملُ أمرَينِ:أحَدُهما: الرَّدُّ على مَنْ يُحرِّمُها، وأنها لو لَم تكنْ مِنْ الطيِّباتِ لَمَا أباحَها رسولُ اللهِ ﷺ.والثَّاني: أنْ يكونَ أرادَ آخِرَ هذهِ الآيةِ، وهوَ الرَّدُّ على مَنْ أباحَها مُطلَقًا، وأنه مُعتَدٍ، فإنَّ رسولَ اللهِ ﷺ إنَّما رخَّصَ فيها للضَّرورةِ وعندَ الحاجَةِ في الغَزوِ وعِندَ عدمِ النِّساءِ وشدَّةِ الحاجةِ إلى المَرأةِ، فمَن رخَّصَ فيها في الحضَرِ معَ كثرةِ النساءِ وإمكانِ النكاحِ المُعتادِ فقَدِ اعتَدَى، واللهُ لا يحبُّ المُعتدِينَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute