وأهلِه، فلا يَكفي مَنْ يَرجو اللهَ، واليَومَ الآخِرَ، أنْ يَجتهدَ في العِبادةِ، وطَلبِ العِلمِ النافِعِ، حتى يَضمَّ إلى ذلك البَذلَ لإِعزازِ الدِّينِ، والجَهرَ بكَلمةِ الحَقِّ؛ حتى تَعلوَ رايةُ المُسلِمينَ.
فقد تعرَّضَ الإمامُ للفِتنةِ من أربَعةٍ من الخُلفاءِ، وهُم: المَأمونُ، والمُعتصمُ، والواثِقُ، والمُتوكلُ، وقد كانَت الأُمةُ قبلَ ذلك تَرتفعُ فيها رايةُ أهلِ السُّنةِ إلى عَهدِ الخَليفةِ هارونَ الرَّشيدِ ﵀ فكانَ أهلُ البِدعِ يَستخِفُّونَ ببِدعتِهم، ولا يَجهَرونَ بباطِلِهم، حتى مالَ المَأمونُ بنُ هارونَ الرَّشيدِ إلى مَقالةِ المُعتزلةِ، وحاوَلَ أنْ يُجبِرَ العُلماءَ والقُضاةَ على القَولِ بمَذهبِه الرَّديءِ، فأجابَه أكثَرُهم تَقيةً، وقُتلَ مَنْ قُتلَ في المِحنةِ، ووقَفَ الإمامُ أَحمدُ مَوقفًا لا يَستطيعُه إلا نَبيٌّ، وقَفَ كأنَّه جَبلٌ شامِخٌ، تَكسَّرت عليه المِحنُ، وانهَزمَت على قَدمَيه الفِتنُ.
ولمَّا هلَكَ المَأمونُ، تَبعَه المُعتصمُ، فجلَدَ الإمامَ، وحبَسَه ثَمانيةً وعِشرينَ شَهرًا، على أنْ يَلينَ، وكانَت له المَنزلةُ والمَكانةُ في قُلوبِ المُسلِمينَ، ما إنْ مالَ عن الحَقِّ، زلَّت بزَلَّتِه عالَمٌ لا يُحصَوْن من كَثرةٍ، وهَيَّأ اللهُ ﷿ له أَسبابَ الثَّباتِ، فقالَ له بَعضُهم: ما عليكَ أنْ تَموتَ ههنا، فتَدخلَ الجَنةَ، وقالَ بعضُهم: إنْ عِشتَ عِشتَ حَميدًا، وإنْ مِتَّ مِتَّ شَهيدًا، فثبَتَ على الحَقِّ، حتى هلَكَ المُعتصمُ، ومِن بعدِه الواثِقُ، ثم أشرَقَت عليه خِلافةُ المُتوكِّلِ، وكان من أهلِ السُّنةِ، فرُفعَت أعلامُ السُّنةِ، ونُكِّسَت أَعلامُ البِدعةِ، وأهلَكَ اللهُ ﷿ كلَّ مَنْ شارَكَ في المِحنةِ، ولكنَّ الإمامَ لم يَسلَمْ