قالَ أَبو عُمرَ: قد قُلنا: إنَّ الاعتِصارَ عندَ أهلِ المَدينةِ هو الرُّجوعُ في الهِبةِ والعَطيةِ، ولا أعلَمُ خِلافًا بينَ العُلماءِ في أنَّ الصَّدقةَ لا رُجوعَ فيها للمُتصدِّقِ بها، وكلُّ ما أُريدَ به -من الهِباتِ- وَجهُ اللهِ تَعالى بأنَّها تَجري مَجرى الصَّدقةِ في تَحريمِ الرُّجوعِ فيها، وأمَّا الهِباتُ إذا لم يَقُلِ الواهِبُ فيها:«لله»، ولا أرادَ بهِبتِه الصَّدقةَ المُخرَجةَ للهِ ﷿؛ فإنَّ العُلماءَ اختَلفوا في ذلك اختِلافًا كَثيرًا.
قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ ﵀: فمَذهبُ مالِكٍ فيما ذكَرَه في كِتابِه (المُوطَّأِ) على ما أورَدناه من تَخصيصِ تَركِ رُجوعِ الأبِ في هِبتِه لوَلدِه إذا نكَحَت الابنةُ أو استَدانَ الابنُ ونَحوُ ذلك على ما تقدَّمَ وَصفُه (١).
٩ - وكذلك يَفوتُ الاعتِصارُ بمَرضِ الوَلدِ المَوهوبِ له مَرضًا مَخوفًا فيَمتنعُ الرُّجوعُ لتَعلُّقِ حَقِّ وَرثتِه بالهِبةِ، وكذلك الحُكمُ إذا مرِضَ الواهِبُ وهو الأبُ أو الأُمُّ ذلك المَرضَ؛ فإنَّ مرَضَه هذا يَمنعُه من الرُّجوعِ فيما وهَبَ لوَلدِه؛ لأنَّ اعتِصارَه حينَئذٍ إنَّما هو للوَرثةِ لا لنَفسِه؛ لأنَّه إذا ماتَ من هذا المَرضِ تَكونُ الهِبةُ التي رجَعَ فيها لغيرِ الوَلدِ كزَوجةِ الأبِ مَثلًا، وهذا هو المَشهورُ في الفَرعَينِ، ورَوى أشهَبُ أنَّ مَرضَ الأبِ لا يَمنعُ بخِلافِ مَرضِ الوَلدِ.
إلا أنْ يَهبَ على هذه الأَحوالِ، يَعني أنَّ الأبَ أو الأُمَّ إذا وهَبَ أحدُهما وَلدَه هِبةً وهو مُتزوجٌ أو وهو مَدينٌ أو وهو مَريضٌ فله أنْ يَعتصرَها منه؛ لأنَّ وُجودَ هذه الأَحوالِ وَقتَ الهِبةِ لا يَكونُ مانِعًا من الاعتِصارِ.