للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والضَّربُ الثالِثُ: هِبةُ الأَدنى للأَعلى، مِثلَ: أنْ يَهبَ بعضُ الرَّعيةِ للسُّلطانِ شَيئًا، أو يَهبَ الفَقيرُ للغَنيِّ، أو يَهبَ الغُلامُ لأُستاذِه فقد اختلَفَ الفُقهاءُ فيها هل تَقتَضي الثَّوابَ أو لا؟

فذهَبَ المالِكيةُ والشافِعيةُ في مُقابِلِ الأظهَرِ -وهو قَولُ الحَنفيةِ كما سيأتي مُفصَّلًا- إلى أنَّها تَقتَضي الثَّوابَ ويَلزمُه أنْ يُثيبَه؛ لمَا رُويَ عن عُمرَ : «مَنْ وهَبَ هِبةً يَرى أنَّه إنَّما أرادَ بها الثَّوابَ فهو على هِبتِه يَرجعُ فيها إنْ لم يَرضَ منها» (١)، ورُويَ: أنَّ رَجلًا سألَ فَضالةَ بنَ عُبيدٍ فقالَ: «إنِّي أهدَيتُ إلى رَجلٍ بازيًا فلم يُثِبْني عليه، فقالَ: إنْ أثابَك وإلا فارجِعْ وخُذْ بازيَك» (٢) ولأنَّ العُرفَ والعادةَ: أنَّ مَنْ وهَبَ لمَن هو أعلى منه، إنَّما يَقصدُ به الثَّوابَ من المالِ، فصارَ هذا العُرفُ كالشَّرطِ؛ لأنَّ العُرفَ أصلٌ يُرجعُ إليه إذا لم يَكنْ غيرُه، وقد عُلمَ أنَّ العُرفَ جارٍ بأنَّ الضَّعيفَ يَهبُ لجارِه الغَنيِّ طَلبًا لمَعروفِه، وأنَّ الواحدَ من خَدمِ السُّلطانِ أو المَلكِ العَظيمِ يَهبُ له مُتعرِّضًا لمَعروفِه ونائِلِه وتَقرُّبًا إليه، فلا وَجهَ لجَحدِ المَعروفِ؛ فإنْ أثابَه وإلا رجَعَ في هِبتِه (٣).


(١) صَحيحٌ مَوقوفًا: رواه مالك في «الموطأ» (١٤٤٠)، ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (١١٨٠٨).
(٢) رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٤/ ٤٢٠)، رقم (٢١٧٠١) قالَ: حدَّثَنا عبدُ الرَّحمنِ بنُ مَهديٍّ، عن مَعاويةَ بنِ صالِحٍ، عن رَبيعةَ بن يَزيدَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عامِرٍ، قالَ: «كُنْتُ جالسًا عندَ فَضالةَ، فأتاه رَجلان يَختصِمانِ في بازٍ، فقالَ أحدُهما: وهَبتَ له بازِي رَجاءَ أنْ يُثيبَني، وأخَذَ بازيَ ولم يُثِبْني، فقالَ له الآخَرُ: وهَبَ لي بازَه، ما سأَلتُه، ولا تَعرضتُ له، فقالَ: رُدَّ عليه بازَه، أو أثِبْه، فإنَّما يَرجعُ في المَواهِبِ النِّساءُ وأَشرارُ الأَقوامِ».
(٣) «الإشراف على نكت مسائل الخلاف» (٣/ ٢٦٣)، رقم (١١٠٦)، ويُنظَرُ: «المحيط البرهاني» (٦/ ٢٠٠)، و «الجوهرة النيرة» (٤/ ٩١)، و «اللباب» (١/ ٦١٤)، و «ابن عابدين» (٨/ ٤٩٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>