للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُستَطيعٍ؛ لأنَّ الحَجَّ هو قَصدُ المُكَلَّفِ البَيتَ الحَرامَ بنَفْسِه، ولأنَّها عِبادةٌ لا تَدخُلُها النِّيابةُ مَع العَجزِ عَنها، كالصَّلاةِ.

وقالَ عُلماؤُنا: حَديثُ الخَثْعَمِيَّةِ ليسَ مَقصودُه الإيجابَ، وإنَّما مَقصودُه الحَثُّ على بِرِّ الوالِدَيْنِ، والنَّظرُ في مَصالِحِهِما دُنيا ودِينًا، وجَلبُ المَنفعةِ إليهما جِبِلَّةً وشَرعًا، فلمَّا رَأَى مِنْ المَرأةِ انفِعالًا وطَواعيةً ظاهِرةً ورَغبةً صادِقةً في بِرِّها بأبيها، وحِرصًا على إيصالِ الخَيرِ والثَّوابِ إليه، وتَأسَّفَتْ أنْ تَفوتَه بَرَكةُ الحَجِّ، أجابَها إلى ذلك، كما قالَ لِلأُخرَى التي قالَتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أنْ تَحُجَّ، فلَمْ تَحُجَّ حتى ماتَتْ، أفَأحُجُّ عَنها؟ قالَ: «نَعم، حُجِّي عَنها، أرَأيتِ لو كانَ على أُمِّكِ دَينٌ، أكُنتِ قاضيَتَهُ؟»، قالَتْ: نَعم (١). ففي هذا ما يَدُلُّ على أنَّه مِنْ بابِ التَّطوُّعاتِ، وإيصالِ البِرِّ والخَيْراتِ لِلأمواتِ، ألَا تَرَى أنَّه قَدْ شَبَّهَ فِعلَ الحَجِّ بالدَّيْنِ، وبِالإجماعِ لو ماتَ مَيِّتٌ وعليه دَيْنٌ لَم يَجِبْ على وَليِّه قَضاؤُه مِنْ مالِه؛ فَإنْ تَطَوَّعَ بذلك تَأدَّى الدَّيْنُ عَنه.

وَمِنْ الدَّليلِ على أنَّ الحَجَّ في هذا الحَديثِ ليسَ بفَرضٍ على أبيها ما صرَّحتْ به هذه المَرأةُ بقَولها: لا يَستَطيعُ، ومَن لا يَستَطيعُ لا يَجِبُ عليه، وهذا تَصريحٌ بنَفْيِ الوُجوبِ ومَنْعِ الفَريضةِ، فلا يَجوزُ ما انتَفَى في أوَل الحَديثِ قَطعًا أنْ يَثبُتَ في آخِرِه ظَنًّا يُحَقِّقُه قولُه: «فَدَيْنُ اللَّهِ أحَقُّ أنْ يُقضَى»؛ فإنَّه ليسَ على ظاهِرِه إجماعًا؛ فإنَّ دَيْنَ العَبدِ أَوْلَى بالقَضاءِ، وبِه يُبدَأُ إجماعًا؛ لِفَقرِ الآدَمِيِّ واستِغناءِ اللَّهِ تَعالى، قالَه ابنُ العَرَبيِّ.


(١) رواه البخاري (١٧٥٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>