وقالَ الإمامُ ابنُ المُنذرِ ﵀: واختَلَفوا في طَهارةِ الماءِ الذي يَلِغُ فيه الكَلبُ، فقالَت طائِفةٌ: الماءُ طاهِرٌ يُتطهَّرُ به للصَّلاةِ ويُغسلُ الإناءُ كما أمَرَ به النَّبيُّ ﷺ، وكانَّ الزُّهريُّ يَقولُ: إذا لم يَجدْ غيرَه تَوضَّأ به، وكذلك قالَ مالِكٌ والأَوزاعيُّ.
وفيه قَولٌ ثانٍ، وهو أنْ يَتوضَّأَ بالماءِ الذي ولَغَ فيه الكَلبُ ثم يَتيممَ بعدَه، رُويَ هذا القَولُ عن عَبدةَ بنِ أبي لُبابةَ، وبه قالَ سُفيانُ الثَّوريُّ وعَبدُ المَلكِ الماجِشونُ ومُحمدُ بنُ مَسلمةَ.
وقالَت طائِفةٌ: الماءُ الذي ولَغَ فيه الكَلبُ نَجسٌ يُهراقُ ويُغسلُ الإناءُ سَبعًا أُولاهُنَّ أو أُخراهُنَّ بالتُّرابِ، هذا قَولُ الشافِعيِّ وأبي عُبيدٍ وأبي ثَورٍ وأَصحابِ الرأيِ.
قالَ أبو بَكرٍ: والدَّليلُ على إِثباتِ النَّجاسةِ للماءِ الذي ولَغَ فيه الكَلبُ غيرُ مَوجودٍ، فليسَ في أمرِ النَّبيِّ ﷺ بأنْ يُغسلَ الإناءُ مِنْ وُلوغِ الكَلبِ فيه سَبعًا دَليلٌ على نَجاسةِ الماءِ الذي يَلِغُ فيه الكَلبُ، وذلك أنَّ اللهَ قد يَتعبَّدُ عبادَه بما شاءَ، فممَّا تَعبَّدهم به أنْ أمَرَهم بغَسلِ الأَعضاءِ التي لا نَجاسةَ عليها غُسلَ عِبادةٍ لا لنَجاسةٍ، وكذلك أمَرَ الجُنبَ بالاغتِسالِ، وقد ثبَتَ أنَّ نَبيَّ اللهِ ﷺ قالَ لرَجلٍ جُنبٍ:«المُؤمنُ ليسَ بنَجسٍ»، وقَولُه:«طَهورُ إناءِ أحدِكم» يَحتمِلُ هذا المَعنى أنْ تَكونَ طَهارةَ عِبادةٍ لا طَهارةَ نَجاسةٍ، وإذا احتمَلَ الشَّيءُ مَعنَيَين لم يَجزْ أنْ يُصرفَ إلى أحدِهما دونَ آخَرَ بغيرِ حُجةٍ، وقد أجمَعَ أهلُ العِلمِ أنَّ النَّجاساتِ تُزالُ بثَلاثِ غَسلاتٍ، وقالَ بَعضُهم: بل تُزالُ بغَسلةٍ واحِدةٍ كالدَّمِ والبَولِ والعُذرةِ والخَمرِ، ولا يَجوزُ أنْ يَكونَ حُكمُ الماءِ المُختلطِ به لُعابُ الكَلبِ أكبَرَ في النَّجاسةِ من بعضِ ما ذَكَرناه، فلو ثبَتَ أنَّ لُعابَ الكَلبِ أكبَرُ من النَّجاسةِ لوجَبَ أنْ تُطهِّرَ الإناءَ بثَلاثِ