ألَا تَرى أنَّ الشَّرعَ وَرَدَ بمَهرِ المِثلِ في بابِ النِّكاحِ مع أنَّه مَجهولُ القَدْرِ؟ وإنَّما يُمنَعُ منها لِإفضائِها إلى المُنازَعةِ، ومَبنى النِّكاحِ والصُّلحِ مِنَ القِصاصِ على المُسامَحةِ، كالإنسانِ يُسامِحُ بنَفْسِه ما لا يُسامِحُ بمالِه عادةً، فلا يَكونُ القَليلُ مِنَ الجَهالةِ مُفضيًا إلى المُنازَعةِ، فلا يَمنَعُ مِنَ الجَوازِ، بخِلافِ بابِ البَيعِ؛ لأنَّ مَبناه على المُماكَسةِ والمُضايَقةِ؛ لِكَونِه مُعاوَضةَ مالٍ بمالٍ، والإنسانُ يُضايِقُ بمالِه ما لا يُضايِقُ بنَفْسِه، فهو الفَرقُ.
وإذا لَم يَصحَّ الصُّلحُ -لِتَفاحُشِ جَهالةِ البَدَلِ- يَسقُطُ القِصاصُ وتَجِبُ الدِّيةُ، وفي النِّكاحِ يَجبُ مَهرُ المِثلِ، إلا أنَّ بَينَهما فَرقًا مِنْ وَجهٍ، فإنَّه لو صالَحَ عن القِصاصِ على خَمرٍ أو خِنزيرٍ لا يَصحُّ ولا يَجبُ شَيءٌ آخَرُ، ولو تَزَوَّجَ امرأةً على خَمرٍ أو خِنزيرٍ لا تَصحُّ التَّسميةُ، ويَجبُ مَهرُ المِثلِ.
وَجهُ الفَرقِ أنَّ الخَمرَ إذا لَم تَصلُحْ بَدَلَ الصُّلحِ بَطَلتْ تَسميتُه وجُعِلَتْ لَفظةُ الصُّلحِ كِنايةً عن العَفوِ، وذلك جائِزٌ؛ لأنَّ العَفوَ الفَضلُ، وفي الصُّلحِ مَعنى الفَضلِ، فأمكَنَ جَعلُه كِنايةً عنه، وبعدَ العَفوِ لا يَجبُ شَيءٌ آخَرُ، فأمَّا لَفظُ النِّكاحِ فلا يَحتمِلُ العَفوَ، ولو احتَمَلَه فالعَفوُ عن حَقِّ الغَيرِ لا يَصحُّ، فيَبقى النِّكاحُ مِنْ غيرِ تَسميةٍ، فيَجِبُ مَهرُ المِثلِ، كما إذا سَكَتَ عن المَهرِ أصلًا، فهو الفَرقُ، وسَواءٌ كان البَدَلُ قَدْرَ الدِّيةِ أو أقَلَّ أو أكثَرَ؛ لقَولِ اللهِ ﷾: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ١٧٨].