فذهَب الحَنفيَّةُ والمالِكيَّةُ والشافِعيَّةُ في الأصَحِّ والحَنابِلةُ في المَذهبِ إلى أنَّ الفاسِقَ الذي يَكذِبُ ويَمنَعُ الزَّكاةَ ويُضيِّعُ الصَّلاةَ مع حِفظِه لِمالِه لا يُحجَرُ عليه، ويُدفَعُ إليه مالُه؛ لأنَّ المَقصودَ بالحَجرِ حِفظُ المالِ، ومالُه مَحفوظٌ بدونِ الحَجْرِ، فلا حاجةَ إليه، ولذلك لو طَرَأ الفِسقُ بعدَ دَفْعِ مالِه إليه لَم يُنزَعْ منه، ولقَولِ الله ﷾: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: ٦] وقد أُونِسَ منه نَوعُ رُشدٍ، وهو إصلاحُ المالِ، فيَتناوَلُه النَّصُّ؛ ولأنَّ الحَجْرَ لِلفَسادِ في المالِ، لا في الدِّينِ؛ ألَا تَرى أنَّه لا يُحجَرُ على الذِّمِّيِّ، والكُفرُ أعظَمُ مِنَ الفِسقِ؟ ولأنَّ الأوَّلِينَ لَم يَحجُروا على الفَسَقةِ، ولأنَّ الفِسقَ لا يَتحقَّقُ به إتلافُ المالِ، ولا عَدَمُ إتلافِه، أي: لا تَلازُمَ بينَ الفِسقِ وإتلافِ المالِ.
ولأنَّ النَّبيَّ ﷺ أقامَ الحُدودَ ثم لَم يَحجُرْ على مَنْ أقامَها عليه في مالِه، وكذا أقامَها أبو بَكرٍ وعُمَرُ وعُثمانُ ﵃ ولَم يُنقَلْ أنَّهم حَجَروا على مَنْ أقاموا ذلك عليه، ولأنَّ وازِعَ المالِ طَبيعيٌّ، ووازِعَ الدِّينِ شَرعيٌّ، والطَّبيعيُّ أقوى، بدَليلِ قَبولِ إقرارِ الفاسِقِ الفاجِرِ -لأنَّ وازِعَه طَبيعيٌّ-، ورَدِّ شَهادَتِه -لأنَّ الوازِعَ فيها شَرعيٌّ-، فاشتُرِطتِ العَدالةُ فيها دونَ الإقرارِ.
فعلى هذا يُدفَعُ إليه مالُه، وإنْ كان مُفسِدًا لدِينِه، كمَن يَترُكُ الصَّلاةَ ويَمنَعُ الزَّكاةَ، وكنَحوِ ذلك.