ويُوفِّيه في أيِّ مَكانٍ شاءَ، وهذا لا يُوجِبُ الفَسادَ؛ لأنَّ الفَسادَ ههنا لِمَكانِ الجَهالةِ المُفضيةِ إلى المُنازَعةِ؛ لِاختِلافِ القيمةِ باختِلافِ الأمكِنةِ، وما لا حَملَ له ولا مُؤنةَ لا تَختلِفُ قيمتُه باختِلافِ الأماكِنِ، فلَم تَكُنْ جَهالةُ مَكانِ الإيفاءِ مُفضيةً إلى المُنازَعةِ.
وفي رِوايةٍ: يَتعيَّنُ مَكانُ العَقدِ لِلإيفاءِ، وهو قَولُ أبي يُوسُفَ ومُحمدٍ، وهو رِوايةُ الجامِعِ الصَّغيرِ، ورِوايةُ البُيوعِ مِنَ الأصلِ.
ومن مشايِخِنا مَنْ أوَّلَ هذه الرِّوايةَ وقال: هي مَعنى قَولِه: يُوفِّيه في المَكانِ الذي أسلَمَ فيه إذا لَم يَتنازَعا.
فإذا تَنازَعا يأخُذُه بالتَّسليمِ حيثُما لَقيَه، ولو شرَط رَبُّ السَّلَمِ التَّسليمَ في بَلَدٍ أو قَريةٍ فحيثُ سَلَّم إليه في ذلك المَوضِعِ فهو جائِزٌ، وليس لِرَبِّ السَّلَمِ أنْ يَتخيَّرَ مَكانًا؛ لأنَّ المَشروطَ هو التَّسليمُ في مَكانٍ منه مُطلَقًا، وقد وُجِدَ، وإنْ سَلَّم في غيرِ المَكانِ المَشروطِ فلرَبِّ السَّلَمِ أنْ يأبى؛ لقَولِ النَّبيِّ ﷺ:«المُسلِمونَ عندَ شُروطِهم»، فإنْ أعطاه على ذلك أجرًا لَم يَجُزْ لِه أخْذُ الأجرِ عليه؛ لأنَّه لمَّا قَبَض المُسلَّم فيه تَعيَّنَ مِلكُه في المَقبوضِ، فتَبيَّنَ أنَّه أخذَ الأجرَ على نَقلِ مِلكِ نَفْسِه فلم يَجُزْ، فيُردُّ الأجرُ وله أنْ يَرُدَّ المُسلَمَ فيه حتى يُسلِّمَ في المَكانِ المَشروطِ؛ لأنَّ حَقَّه في التَّسليمِ فيه، ولَم يَرضَ ببُطلانِ حَقِّه إلا بعِوَضٍ، ولَم يُسلِّمْ له، فبَقيَ حَقُّه في التَّسليمِ في المَكانِ المَشروطِ (١).
(١) «بدائع الصنائع» (٥/ ٢١٣، ٢١٤) ويُنظر: «المبسوط» (١٢/ ١٢٧)، و «تحفة الفُقهاء» (٢/ ١٣)، و «المحيط البرهاني» (٧/ ٦٣٤)، و «الجوهرة النيرة» (٣/ ١٤٨)، و «تبيين الحقائق» (٤/ ١١٦)، و «البحر الرائق» (٦/ ١٧٦).