المالِ الذي هو مَحضُ حَقِّ الآدَميِّ، ولِهَذا يَملِكُ بَذلَه بعِوَضٍ، وبغيرِ عِوَضٍ، والإنسانُ قد يَلعَبُ مع الإنسانِ ويَنبسِطُ معه، فإذا تَكلَّمَ على هذا الوَجْهِ لَم يَلزَمْه حُكمُ الجادِّ؛ لأنَّ المِزاحَ معه جائِزٌ.
وحاصِلُ الأمْرِ أنَّ اللَّعِبَ والهَزلَ والمِزاحَ في حُقوقِ اللَّهِ تَعالى غيرُ جائِزٍ؛ فيَكونُ جِدُّ القَولِ وهَزلُه سَواءً، بخِلافِ جانِبِ العِبادِ، ألَا تَرَى أنَّ النَّبيَّ ﷺ كانَ يَمزَحُ مع الصَّحابةِ ويُباسِطُهم، وأمَّا مع رَبِّه تَعالى فيَجِدُّ كُلَّ الجِدِّ، ولِهذا قالَ لِلأعرابيِّ يُمازِحُه:«مَنْ يَشتَرِي مِنِّي العَبدَ؟» فقالَ: تَجِدُني رَخيصًا يا رَسولَ اللَّهِ، فقالَ:«بَلْ أنتَ عندَ اللَّهِ غالٍ»، وقصَد أنَّه عَبدٌ لِلَّهِ ﷾، والصِّيغةُ صِيغةُ استِفهامٍ، وهو كانَ يَمزَحُ، ولا يَقولُ إلَّا حَقًّا، ولو أنَّ رَجُلًا قالَ: مَنْ يَتزوَّجُ أُمِّي أو أُختي؟ لَكانَ مِنْ أقبَحِ الكَلامِ، وقد كانَ عمرَ يَضرِبُ مَنْ يَدعو امرَأتَه أُختَه، وقد جاءَ في ذلك حَديثٌ مَرفوعٌ رَواه أبو داوُدَ: أنَّ رَجُلًا قالَ لِامرَأتِه: يا أُختَه. فقالَ النَّبيُّ:«أُختُكَ هي؟ إنَّما جعَل إبراهيمُ ذلك حاجةً، لا مِزاحًا».
وممَّا يُوضِّحُه أنَّ عَقدَ النِّكاحِ يُشبِهُ العِباداتِ في نَفْسِه، بَلْ هو مُقدَّمٌ على نَفْلِها، ولِهذا يُستَحَبُّ عَقدُه في المَساجِدِ، ويُنهَى عنِ البَيعِ فيها، ومَن يَشترِطُ له لَفظَ العَرَبيةِ راعَى فيه ذلك؛ إلحاقًا له بالأذكارِ المَشروعةِ، ومِثلُ هذا لا يَجوزُ الهَزلُ به، فإذا تَكَلَّمَ به رَتَّبَ الشارِعُ عليه حُكمَه، وإنْ لَم يَقصِدْه بحُكمِ وِلايةِ الشارِعِ على العَبدِ؛ فالمُكلَّفُ قصَد السَّببَ، والشارِعُ قصَد الحُكمَ، فصارا مَقصودَيْنِ كِلاهما (١).
(١) «إعلام الموقعين عن رب العالمين» (٣/ ١٢٤، ١٢٦)، وينظر: «البدائع» (٧/ ٢٩)، و «حاشية ابن عابدين» (٦/ ٣٧٧، ٣٧٨)، و «درر الحكام شرح مجلة الأحكام» (١/ ١١٩)، و «الأشباه والنظائر» لابن نجيم (٢٠٩)، و «أحكام القرآن» (٢/ ٥٤٣)، و «حاشية الدسوقي» (٤/ ٦)، و «حاشية العدوي» (٢/ ٥١)، و «الفواكه الدواني» (٢/ ٥)، و «شرح مختصر خليل» (٣/ ١٧٤)، و «المجموع» (٩/ ١٦٤)، و «روضة الطالبين» (٣/ ٢٠)، و «القواعد» لابن رجب (١٣٠)، و «الإنصاف» (٤/ ٢٦٦)، و «كشاف القناع» (٣/ ١٧١).