فلمَّا قضَى أيامَ منًى باتَ بالمِحصَبِ بعدَ النَّفرِ، وخرَج من الغَدِ قافِلًا إلى المَدينةِ، ولم يَعتمرْ بعدَ ذلك، ولم يَأمرْ مَنْ معه بالعُمرةِ، ولا بأنْ يُسافروا لها سَفرةً أُخرى، وقد كان فيهم المُفرِدُ والقارِنُ، وهُم لا يرَونَ أنَّه قد بقِي عليهم فَريضةٌ أُخرى، بل قد سمِعوا منه أنَّ الحَجَّ لا يَجبُ إلا في عامٍ واحدٍ، وقد فعَلوه، فلو كانَتِ العُمرةُ واجبةً كالحَجِّ لَبيَّن لهم ذلك، أو لَأقامَ رَيثَما يَعتمرُ مَنْ لم يَكنِ اعتمَرَ.
قالَ: ورُبَّما احتَجَّ بعضُهم بقولِه: «دخَلتِ العُمرةُ في الحَجِّ»، وليس بشيءٍ، ولأنَّ العُمرةَ بعضُ الحَجِّ فلم تَجبِ على الانفِرادِ كالطَّوافِ، وهذا لأنَّ الحَجَّ لم يَجبْ على وَجهِ التَّكرارِ، وإنَّما وجَب مَرةً واحِدةً، فلو وجَبتِ العُمرةُ لَكانَ قد وجَب على الإنسانِ حجَّتانِ: صُغرى وكُبرى، فلم يَجزْ، كما لم يَجبْ عليه حَجُّ وطَوافٌ، وكلُّ ما يَفعلُه المُعتمِرُ، فقد دخَل في الحَجِّ، فليس في العُمرةِ شَيءُ يَقتَضي إفرادَه بالإيجابِ، لكنْ جعَل اللهُ المَناسكَ على ثَلاثِ دَرجاتٍ، أتَمُّها هو الحَجُّ المُشتمِلُ على الإحرامِ والوُقوفِ والطَّوافِ والسَّعيِ والرَّميِ والإحلالِ، وبعدَه العُمرةُ المُشتمِلةُ على الإحرامِ والطَّوافِ والسَّعيِ والإحلالِ، وبعدَه الطَّوافُ المُجرَّدُ، ولأنَّها نُسكٌ غيرُ مُؤقَّتِ الابتِداءِ والانتِهاءِ لم تَجبْ كالطَّوافِ.
ولأنَّها عِبادةٌ غيرُ مُؤقَّتةٍ من جِنسِها فَرضٌ مُؤقَّتٌ لم تَجبْ كصَلاةِ النافِلةِ، وهذا لأنَّ العِباداتِ المَحضةَ إذا وجَبت وُقِّتت كما وُقِّتت الصَّلاةُ والصِّيامُ والحَجُّ، فإذا شُرِعت في جِميعِ الأوقاتِ عُلم أنَّها شُرعِت رَحمةً