للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


الثاني: أنَّ الأحكامَ التي تَحتاجُ الأُمَّةُ إلى مَعرِفتِها لا بُدَّ أنْ يُبيِّنَها الرَّسولُ بَيانًا عامًّا ولا بُدَّ أنْ تَنقُلَها الأُمَّةُ فإذا انتَفى هذا عُلِم أنَّ هذا ليس مِنْ دِينِه، وهذا كما يُعلَمُ لم يَفرِضْ صيامَ شَهرٍ غَيرِ رَمضانَ ولا حَجَّ بَيتٍ غَيرِ البَيتِ الحَرامِ ولا صَلاةً مَكتوبةً غَيرَ الخَمسِ، ولم يُوجِبِ الغُسلَ في مُباشَرةِ المَرأةِ بلا إنزالٍ، ولا أوجَبَ الوُضوءَ من الفَزَعِ العَظيمِ، وإنْ كان في مَظِنَّةِ خُروجِ الخارِجِ ولا سَنَّ الرَّكعتَيْن بعدَ الطَّوافِ بينَ الصَّفا والمَروةِ كما سَنَّ الرَّكعتَيْن بعدَ الطَّوافِ بالبَيتِ … وإذا كانت الأحكامُ التي تَعُمُّ بها البَلوى لا بُدَّ أنْ يُبيِّنَها الرَّسولُ بَيانًا عامًّا ولا بُدَّ أنْ تَنقُلَ الأُمَّةُ ذلك: فمَعلومٌ أنَّ الكُحلَ ونَحوَه ممَّا تَعُمُّ به البَلوى كما تَعُمُّ بالدُّهنِ والاغتِسالِ والبَخورِ والطِّيبِ. فلو كان هذا مما يُفطِرُ لَبَيَّنه النَّبيُّ كما بيَّن الإفطارَ بغَيرِه، فلَمَّا لم يُبيِّنْ ذلك عُلِم أنَّه من جِنسِ الطِّيبِ والبَخورِ والدُّهنِ، والبَخورُ قد يَتصاعَدُ إلى الأنفِ ويَدخُلُ في الدِّماغِ ويَنعقِدُ أجسامًا، والدُّهنُ يَشرَبُه البَدنُ ويَدخُلُ إلى داخِلِه ويَتقوَّى به الإنسانُ، وكذلك يَتقوَّى بالطِّيبِ قُوَّةً جَيِّدةً، فلَمَّا لم يَنهَ الصائِمَ عن ذلك دَلَّ على جَوازِ تَطييبِه وتَبخيرِه وادِّهانِه، وكذلك اكتِحالُه. وقد كان المُسلِمون في عَهدِه يُجرَحُ أحَدُهم إمَّا في الجِهادِ وإمَّا في غَيرِه مَأمومةً وجائِفةً فلو كان هذا يُفطِرُ لَبَيَّن لهم ذلك، فلَمَّا لم يَنهَ الصائِمَ عن ذلك عُلِم أنَّه لم يَجعَلْه مُفطِرًا.
الوَجهُ الثالِثُ: إثباتُ التَّفطيرِ بالقياسِ يَحتاجُ إلى أنْ يَكونَ القياسُ صَحيحًا، وذلك إمَّا قياسُ عِلَّةٍ بإثباتِ الجامِعِ وإمَّا بإلغاءِ الفارِقِ، فإمَّا أنْ يَدُلَّ دَليلٌ على العِلَّةِ في الأصلِ فيُعدَّى بها إلى الفَرعِ، وإمَّا أنْ يُعلَمَ أنَّه لا فارِقَ بينَهما من الأوصافِ المُعتَبَرةِ في الشَّرعِ، وهذا القياسُ هنا مُنتَفٍ. وذلك أنَّه ليس في الأدِلَّةِ ما يَقتَضي أنَّ المُفطِرَ الذي جعَله اللهُ ورَسولُه مُفطِرًا هو ما كان واصِلًا إلى دِماغٍ أو بَدنٍ أو ما كان داخِلًا من مَنفَذٍ أو واصِلًا إلى الجَوفِ. ونَحوُ ذلك من المَعاني التي يَجعَلُها أصحابُ

<<  <  ج: ص:  >  >>