وقال شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ ﵀: والأظهَرُ أنَّه لا يُفطِرُ بشَيءٍ من ذلك؛ فإنَّ الصِّيامَ من دينِ المُسلِمين الذي يَحتاجُ إلى مَعرِفتِه الخاصُّ والعامُّ، فلو كانت هذه الأُمورُ مما حَرَّمها اللهُ ﷾ ورَسولُه ﷺ في الصِّيام، ويَفسُدُ الصَّومُ بها لَكان هذا مما يَجِبُ على الرَّسولِ بَيانُه، ولو ذكَر ذلك لَعَلِمَه الصَّحابةُ وبلَّغوه الأُمَّةَ كما بَلَّغوا سائِرَ شَرعِه، فلَمَّا لم يَنقُلْ أحَدٌ من أهلِ العِلمِ عن النَّبيِّ ﷺ في ذلك حَديثًا صَحيحًا ولا ضَعيفًا ولا مُسنَدًا ولا مُرسَلًا عُلِم أنَّه لم يُذكَرْ شَيءٌ من ذلك.
والذين قالوا: إنَّ هذه الأُمورَ تُفطِرُ، كالحُقنةِ ومُداواةِ المأمومةِ والجائِفةِ لم يكنْ معهم حُجَّةٌ عن النَّبيِّ ﷺ وإنَّما ذكَروا ذلك بما رأوْه من القياسِ، وأقوى ما احتَجُّوا به قَولُه ﷺ:«وَبَالِغْ في الِاسْتِنْشَاقِ إلا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا»؛ قالوا: فدَلَّ ذلك على أنَّ ما وصَل إلى الدِّماغِ يُفطِرُ الصائِمَ إذا كان بفِعلِه، وعلى القياسِ كلُّ ما وصَل إلى جَوفِه بفِعلِه من حُقنةٍ وغَيرِها سَواءٌ كان ذلك في مَوضِعِ الطَّعامِ والغِذاءِ أو غَيرِه من حَشوِ جَوفِه.
وإذا كان عُمدتُهم هذه الأقيسةَ ونَحوَها لم يَجُزْ إفسادُ الصَّومِ بمِثلِ هذه الأقيسةِ لِوُجوهٍ: ثم ذكَرها ﵀(١).
(١) «مجموع الفتاوى» (٢٥/ ٢٣٤) وهذه الوُجوهُ: أحَدُها: أنَّ القياسَ -وإنْ كان حُجَّةً إذا اعتُبِرت شُروطُ صِحَّتِه- فقد قُلنا في الأُصولِ: إنَّ الأحكامَ الشَّرعيَّةَ كلَّها بَيَّنتها النُّصوصُ أيضًا، وإنْ دَلَّ القياسُ الصَّحيحُ على مِثلِ ما دَلَّ عليه النَّصُّ دِلالةً خَفيَّةً، فإذا عَلِمْنا بأنَّ الرَّسولَ ﷺ لم يُحرِّمِ الشَّيءَ ولم يُوجِبْه عَلِمنا أنَّه ليس بحَرامٍ ولا واجِبٍ. وأنَّ القياسَ المُثبِتَ لِوُجوبِه وتَحريمِه فاسِدٌ، ونحن نَعلَمُ أنَّه ليس في الكِتابِ والسُّنَّةِ ما يَدُلُّ على الإفطارِ بهذه الأشياءِ التي ذكَرها بَعضُ أهلِ الفِقهِ فعَلِمنا أنَّها ليسَت مُفطِرةً.