للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكَ، ويَحسُبَه من زَكاةِ مالِه؟ قالَ: لا يُجزِئُه ذلك. فقُلت له: فيَدفَعُ إليه مِنْ زَكاةِ مالِه فإنْ رَدَّه إليه قَضاءً من مالِه له أخَذَه؟ قالَ: نَعم.

وقالَ في مَوضعٍ آخَرَ: وقيلَ له: فإنْ أعطاه ثم رَدَّه إليه؟ قالَ: إذا كانَ بحِيلةٍ فلا يُعجِبُني، قيلَ له: فإنِ استَقرَضَ الذي عليه الدَّينُ دَراهمَ فقَضاه إيَّاها ثم رَدَّها عليه وحسَبَها من الزَّكاةِ، فقالَ: إذا أَرادا بها إِحياءَ مالِه فلا يَجوزُ.

فحصَلَ من كَلامِه أنَّ دَفعَ الزَّكاةِ إلى الغَريمِ جائِزٌ، سَواءٌ دفَعَها ابتِداءً أو استَوفى حَقَّه ثم دفَعَ ما استَوفاه إليه إلا أنَّه مَتى قصَدَ بالدَّفعِ إِحياءَ مالِه أو استيفاءَ دَينِه لم يَجزْ؛ لأنَّ الزَّكاةَ لحَقِّ اللهِ تَعالى، فلا يَجوزُ صَرفُها إلى نَفعِه، ولا يَجوزُ أنْ يُحتسَبَ الدَّينُ الذي له من الزَّكاةِ قبلَ قَبضِه؛ لأنَّه مَأمورٌ بأَدائِها وإِيتائِها، وهذا إِسقاطٌ واللهُ أعلمُ (١).

وذهَبَ الشافِعيةُ في قَولٍ وأشهَبُ من المالِكيةِ إلى جَوازِ ذلك؛ لأنَّه لو دفَعَ إليه زَكاتَه ثم أخَذَها منه عن دَينِه جازَ، فكذا هذا.

قالَ الإمامُ النَّوويُّ : إذا كانَ لرَجلٍ على مُعسِرٍ دَينٌ، فأَرادَ أنْ يَجعَلَه عن زَكاتِه وقالَ له: جَعلتُه عن زَكاتي، فوَجهانِ (في مَذهبِ الشافِعيِّ) أصَحُّهما: لا يُجزِئُه، وهو مَذهبُ أبي حَنيفةَ وأحمدَ؛ لأنَّ الزَّكاةَ في ذمَّتِه فلا تُبرأُ إلا بإِقباضِها، والثاني: يُجزِئُه، وهو مَذهبُ الحَسنِ البَصريِّ، وعَطاءٍ (٢)؛ لأنَّه


(١) «المغني» (٤/ ١٠٦).
(٢) وقالَ أبو عُبيدةَ القاسِمُ بنُ سلامٍ في كِتابِه «الأموال» (١/ ٥٣٣، ٥٣٤): وهذا مَذهبٌ لا أعلَمُ أحدًا يَعملُ به ولا يَذهبُ إليه مِنْ أهلِ الأثَرِ، وأهلِ الرأيِ، وكانَ سُفيانُ بنُ سَعيدٍ فيما حَكَوْا عنه يَكرهُه ولا يَراهُ مُجزِئًا، فسأَلت عنه عَبدَ الرَّحمنِ فإذا هو على مِثلِ رَأيِ سُفيانَ ولا أدري لَعلَّه قد ذكَرَه عن مالِكٍ أيضًا، وكذلك هو عِندي غيرُ مُجزئٍ عن صاحِبِه بخِلالٍ اجتمَعت فيه:
أمَّا إحداها: فإنَّ سُنةَ رَسولِ اللهِ في الصَّدقةِ كانت على خِلافِ هذا الفِعلِ؛ لأنَّه إنَّما كانَ يأخُذُها من أَعيانِ المالِ عن ظَهرِ أيدي الأغنياءِ ثم يَرُدُّها في الفُقراءِ، وكذلك كانَ الخُلفاءُ بعدَه ولم يأتِنا عن أحَدٍ منهم أنَّه أذِن لِأحدٍ في احتِسابِ دَينٍ من زَكاةٍ، وقد عَلِمْنا أنَّ الناسَ قد كانوا يُدانونَ في دَهرِهم.
وأما الثانية: فهذا مالٌ هالِكٌ غيرُ مُوجودٍ، قد خرَجَ من يَدِ صاحِبِه على مَعنى القَرضِ والدَّينِ، ثم هو يُريدُ تَحويلَه بعدَ الهلاكِ إلى غَيرِه بالنِّيةِ، فهذا ليسَ بجائِزٍ في مُعامَلاتِ الناسِ بينَهم، حتى يُقبَضَ ذلك الدَّينُ، ثم يَستأنِفُ الوَجهَ الآخَرَ، فكيف يَجوزُ فيما بينَ العِبادِ وبينَ اللهِ .
وأمَّا الثالِثةُ: فأنِّي لا آمَنُ أنْ يَكونَ إنَّما أراد أنْ يَقيَ مالَه بهذا الدَّينِ قد يئِسَ منه، فيَجعلَه رِدءًا لِمالِه يَقيه به، إذا كانَ منه يائِسًا، وليس يَقبَلُ اللهُ تَعالى إلا ما كانَ له خالِصًا. اه.

<<  <  ج: ص:  >  >>