الحاكِمُ وأَمينُه فلا يَأكُلانِ شَيئًا؛ لأنَّهما يَستَغنيانِ بمالِهما في بَيتِ المالِ، ومع عَدمِ الحاجةِ يَأكلُ ما فرَضَه له الحاكِمُ بلا خِلافٍ.
وإنْ كانَ غَنيًّا لم يَجُزْ له ذلك إذا لم يَكنْ أَبًا؛ لقَولِ اللهِ تَعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: ٦]، وقالَ ابنُ عَقيلٍ: يَأكلُ وإنْ كانَ غَنيًّا قِياسًا على العَملِ في الزَّكاةِ، والآيةُ مَحمولةُ على الاستِحبابِ، والأولُ أَولى لظاهِرِ الآيةِ، وهو المَذهبُ.
قالَ في «الشَّرح الكَبير»: وهل يَلزمُه عِوضُ ذلك إذا أيسَرَ؟ على رِوايتَينِ، أمَّا إذا كانَ أَبًا فلا يَلزمُه رِوايةً واحِدةً؛ لأنَّ للأَبِ أنْ يَأخذَ من مالِ وَلدِه ما شاءَ مع الحاجةِ ومع عَدمِها، وإنْ كانَ غيرَ الأبِ لم يَلزمْه عِوضُ ذلك في إِحدَى الرِّوايتَينِ، وهذا قَولُ الحَسنِ والنَّخعيِّ وأحدُ قَولَيِ الشافِعيِّ؛ لأنَّ اللهَ تَعالى أمَرَ بالأكلِ من غيرِ ذِكرِ عِوضٍ، فأشبَهَ سائِرَ ما أمَرَ بأكْلِه، ولأنَّه عِوضٌ عن عَملِه لم يَلزَمْه بَدلُه كالأَجيرِ والمُضاربِ.
والثانيةُ: يَلزمُه عِوضُه، وهو قَولُ عُبيدةَ السَّلمانِيِّ وعَطاءٍ ومُجاهدٍ وسَعيدِ ابنِ جُبَيرٍ وأَبي العاليةِ؛ لأنَّه استَباحَه بالحاجةِ من مالِ غيرِه فلزِمَه قَضاؤُه كالمُضطَرِّ إلى طَعامِ غيرِه، والأولُ أصَحُّ؛ لأنَّه لو وجَبَ عليه إذا أيسَرَ لكانَ واجِبًا في الذِّمةِ قبلَ اليَسارِ؛ فإنَّ اليَسارَ ليسَ سَببًا للوُجوبِ، فإذا لم يَجِبْ بالسَّببِ الذي هو الأكلُ لم يَجِبْ بعدَه، وفارَقَ المُضطَرَّ؛ فإنَّ العِوضَ واجِبٌ عليه في ذِمتِه، ولأنَّه لم يَأكُلْه عِوضًا عن شَيءٍ وهذا بخِلافِه (١).
(١) «الشرح الكبير» (٤/ ٥٣١)، و «الإنصاف» (٥/ ٣٣٨)، و «المبدع» (٤/ ٣٤٥، ٣٤٦)، و «مطالب أولي النهى» (٣/ ٤١٧)، و «منار السبيل» (٢/ ١٥٧).