للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذلك أنَّه قالَ في قولِ ابنِ عَباسٍ: «جمَعَ رَسولُ اللَّهِ بينَ الظُّهرِ والعَصرِ، والمَغربِ والعِشاءِ في غيرِ خَوفٍ ولا سَفرٍ» أَرى ذلك كانَ في مَطرٍ، قالَ: فلم يَأخذْ بعُمومِ الحَديثِ ولا بتَأويلِه، أعني تَخصيصَه، بل ردَّ بَعضَه وتَأوَّلَ بَعضَه، وذلك شَيءٌ لا يَجوزُ بإِجماعٍ، وذلك أنَّه لم يَأخذْ بقولِه فيه جمَعَ بينَ الظُّهرِ والعَصرِ، وأخَذَ بقولِه: والمَغربِ والعِشاءِ، وتأوَّلَه.

وأحسَبُ أنَّ مالِكًا إنَّما ردَّ بعضَ هذا الحَديثِ؛ لأنَّه عارَضَه العملُ، فأخَذَ منه بالبعضِ الذي لم يُعارِضه العملُ، وهو الجَمعُ في الحَضرِ بينَ المَغربِ والعِشاءِ، على ما رُويَ أنَّ ابنَ عمرَ كانَ إذا جمَعَ الأُمراءَ بينَ المَغربِ والعِشاءِ جمَعَ معهم، لكنَّ النَّظرَ في هذا الأصلِ -الَّذي هو العملُ- كيف يَكونُ دَليلًا شَرعيًّا فيه نَظرٌ؟ فإنَّ مُتقدِّمي شُيوخِ المالِكيةِ كانوا يَقولونَ: إنَّه مِنْ بابِ الإِجماعِ، وذلك لا وَجهَ له، فإنَّ إِجماعَ بعضِهم لا يُحتَجُّ به، وكان مُتأخِّرُوهم يَقولونَ: إنَّه مِنْ بابِ نَقلِ التَّواتُرِ، ويَحتَجونَ في ذلك بالصَّاعِ وغيرِه ممَّا نقَلَه أهلُ المَدينةِ خَلفًا عن سَلفٍ، والعملُ إنَّما هو فِعلٌ، والفِعلُ لا يُفيدُ التَّواتُرَ، إلا أن يَقتَرِنَ بالقولِ؛ فإنَّ التَّواتُرَ طَريقُه الخبَرُ، لا العملُ، وبأنَّ جَعلَ الأفعالِ تُفيدُ التَّواتُرَ عَسيرٌ، بل لعلَّه مَمنوعٌ، والأشبَهُ عِنْدِي أن يَكونَ مِنْ بابِ عُمومِ البَلوى الذي يَذهَبُ إليه أبو حَنيفةَ، وذلك أنَّه لا يَجوزُ أن تَكونَ أمثالُ هذه السُّننِ مع تَكرُّرِها وتَكرُّرِ وُقوعِها أَسبابُها غيرُ مَنسوخةٍ، ويَذهبُ العملُ بها على أهلِ المَدينةِ الذينَ تَلقَّوُا العملَ بالسُّننِ خَلفًا عن سَلفٍ، وهو أَقوى مِنْ عُمومِ البَلوى الذي يَذهبُ إليه أبو حَنيفةَ؛ لأنَّ أهلَ المَدينةِ أَحرى ألَّا يَذهبَ عليهم ذلك مِنْ غيرِهم مِنْ النَّاسِ الذينَ يَعدُّهم أبو حَنيفةَ في طَريقِ النَّقلِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>