فدَليلُنا قَولُه ﷺ:«إنَّ اللهَ تَعالى جعَلَ لكم ثُلثَ أَموالِكم عندَ مَوتِكم زِيادةً في أَعمالِكم»، وهذا نَهيٌ أنْ يَكونَ للمَريضِ حَقُّ تَصرُّفٍ فيما زادَ على الثُّلثِ، ولأنَّها عَطيةٌ تَلزمُ بالمَوتِ فكانَت في الثُّلثِ، أصلُه إذا كانَ له وارِثٌ مُعيَّنٌ، ولأنَّ له مَنْ يَعقِلُ عنه فلم يَكنْ له أنْ يُوصيَ بزِيادةٍ على الثُّلثِ، كما لو كانَ له أَموالٌ، ولأنَّ أَسبابَ التَّوارثِ مُختلفةٌ في القُوةِ والضَّعفِ، والنَّسبُ أَولى من الوَلاءِ، والوَلاءُ أَقوى من مُوالاةِ الدِّينِ، ثم قد ثبَتَ أنَّ مع بعضِ هذه الأَسبابِ ليسَ له أنْ يَزيدَ على الثُّلثِ فكانَ مع ما ضعُفَ عنها أوْلى.
فإنْ قيلَ: هذا مَبنيٌّ على أنَّ المالَ يَنتقِلُ إلى المُسلِمينَ إِرثًا فدَلُّوا على ذلك، قُلنا: لأنَّهم يَعقِلونَ عنه فجازَ أنْ يَرِثوه كالمَولَى، ولأنَّه مَيتٌ من أهلِ الإِسلامِ فلم يَنفَكَّ عن وارِثٍ كالذي له نَسبٌ مُعيَّنٌ (١).
وقالَ الإِمامُ ابنُ رُشدٍ ﵀: وأمَّا اختِلافُهم في جَوازِ الوَصيةِ بأكثَرَ من الثُّلثِ لمَن لا وارِثَ له فإنَّ مالِكًا لا يُجيزُ ذلك والأَوزاعيَّ، واختَلفَ فيه قَولُ أَحمدَ، وأَجازَ ذلك أَبو حَنيفةَ وإِسحاقُ، وهو قَولُ ابنِ مَسعودٍ.
وسَببُ الخِلافِ هل هذا الحُكمُ خاصٌّ بالعِلةِ التي علَّله بها الشارِعُ أو ليسَ بخاصٍّ؟ وهو ألَّا يَتركَ وَرثتَه عالةً يَتكفَّفونَ الناسَ كما قالَ ﷺ:«إنَّك أنْ تَذرَ وَرثتَك أَغنياءَ خَيرٌ من أنْ تَذرَهم عالةً يَتكفَّفونَ الناسَ» فمَن جعَلَ هذا السَّببَ خاصًّا وجَبَ أنْ يَرتفعَ الحُكمُ بارتِفاعِ هذه
(١) «الإشراف على نكت مسائل الخلاف» (٥/ ١٧٣، ١٧٤)، رقم (١٩٢٦).