للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلا أنَّ الفُقهاءَ اختَلَفوا هل يَجوزُ له تَقديمُ الكَفارةِ على الحِنثِ أو لا يَجوزُ؟ على ثَلاثةِ أَقوالٍ:

القَولُ الأوَّلُ: هو مَذهبُ المالِكيةِ في المَشهورِ والحَنابِلةِ في المَذهبِ وجَماهيرِ أهلِ العِلمِ، وهو مَذهَبُ أربَعةَ عَشرَ مِنْ الصَّحابةِ أنَّه يَجوزُ تَقديمُ الكَفارةِ على الحِنثِ لما رَواه مُسلِمٌ عن عَبدِ الرَّحمنِ بنِ سَمرةَ قالَ: قالَ لي رَسولُ اللَّهِ: «يا عبدَ الرَّحمنِ بنَ سَمرةَ … إذا حلَفتَ على يَمينٍ فرَأيتَ غَيرَها خَيرًا منها فكفِّرْ عن يَمينِكَ وائْتِ الذي هو خَيرٌ» (١)، وهذا نَصٌّ.

وقَولُ النَّبيِّ : «لا أحلِفُ على يَمينٍ فأَرى غَيرَها خَيرًا منها إلا كَفَّرتُ عن يَميني وأتَيتُ الذي هو خَيرٌ أو أتَيتُ الذي هو خَيرٌ وكَفَّرتُ عن يَميني» (٢). وهذا دَليلٌ على التَّخييرِ.

ولأنَّه كَفَّرَ عن يَمينِه بَعدَ عَقدِها فأشبَهَ أنْ يُكفِّرَ بعدَ الحِنثِ، ولِأنَّه مَعنًى يَرفَعُ حُكمَ اليَمينِ، فلم يَقِفْ ثُبوتُ حُكمِه على وُجوبِ الحِنثِ، أصلُه الاستِثناءُ، ولأنَّ الكَفارةَ أَقوى مِنْ الاستِثناءِ بدَليلِ أنَّه يَرفَعُ اليَمينَ مُنفَصِلةً ومُتَّصِلةً.

ولأنَّ اليَمينَ سَببُ الكَفارةِ؛ لقَولِه تَعالى: ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة: ٨٩]، فأضافَ الكَفارةَ إلى اليَمينِ، والمَعاني تُضافُ إلى أَسبابِها وأيضًا فإنَّ الكَفارةَ بَدلٌ عن البِرِّ فيَجوزُ تَقديمُها قبلَ الحِنثِ (٣).


(١) أخرجه مسلم (١٦٥٢).
(٢) أخرجه البخاري (٦٢٤٩، ٦٣٤٠)، ومسلم (١٦٤٩).
(٣) «المدونة الكبرى» (٣/ ١١٦، ١١٧)، و «التمهيد» (٢١/ ٢٤٧)، و «الإشراف على نكت مسائل الخلاف» (٤/ ٢٨١، ٢٨٢)، و «شرح صحيح البخاري» (٦/ ١٨٥، ١٨٦)، و «الاستذكار» (٥/ ١٩٦)، و «تفسير القرطبي» (٦/ ٢٧٥)، و «المغني» (٩/ ٤١١)، و «شرح الزركشي» (٣/ ٣١٢، ٣١٣)، و «منار السبيل» (٣/ ٤٢٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>