للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولمَا رَوتْ عائشةُ أنَّ النَّبيَّ بعَثَ أَبا جَهمِ بنِ حُذيفةَ مُصدقًا، فلاجَّهُ رَجلٌ في صَدقتِه، فضرَبَه أَبو جَهمٍ فشَّجَه، فأَتوا النَّبيَّ فقالوا: «القَودَ يا رَسولَ اللهِ». فقالَ: «إني خاطبٌ على الناسِ ومُخبِرُهم برِضاكُم» قالوا: نعم، فخطَبَ فقالَ: «إنَّ هؤلاء اللَّيثيِّينِ أَتوني يُريدونَ القَودَ، فعرَضْتُ عليهم كذا وكذا فرَضوا، أفرَضِيتُم»؟ قالُوا: لا، فهَمَّ المُهاجرونَ بهم، فأمَرَهم رَسولُ اللهِ أنْ يَكفوا عنهم فكَفُّوا، ثُم دَعاهم فزادَهم فقالَ: «أفرَضِيتُم؟» فقالُوا: نعم، قالَ: «إني خاطِبٌ على الناسِ ومُخبِرُهم برِضاكُم» قالوا: نعم. فخطَبَ فقالَ: «أرضيتُم؟» قالُوا: نعم» (١).

فلمْ يَحكمْ عليهم النَّبيُّ بعِلمِه لمَّا جحَدوا؛ تَعليمًا لأُمتِه، وسدًّا لبابِ التُّهمِ والظُّنونِ.

ولأنَّه امتنَعَ مِنْ قَتلِ المُنافقينَ معَ عِلمِه بكُفرِهم، وقالَ: «لئلَّا يَتحدثَ الناسُ أنَّ مُحمدًا يَقتلُ أَصحابَه» (٢)، وإنما لمْ يَقتلْهم؛ لأنَّ الناسَ لمْ يَعلموا كُفرَهم كما علِمَه، ولأنَّ الحاكمَ لمَّا لمْ يَكنْ مَعصومًا، وقد يَلحقُه الظِّنةُ والتُّهمةُ، ويُمكنُ وُقوعُ ذلك منهم، فحسَمَ البابَ في مَنعِ حُكمِه بعِلمِه لئلَّا يُدعى عليه أنَّه حكَمَ على عَدوِّه.

ولأنَّ الشاهدَ مَندوبٌ للإِثباتِ والقاضِي مَندوبٌ للحُكمِ، فلمَّا لمْ يَجزْ أنْ يَكونَ الشاهدُ قاضيًا بشَهادتِه لمْ يَجزْ أنْ يَكونَ القاضِي شاهدًا لحُكمِه.


(١) حَدِيثٌ صَحِيحٌ: رواه أبو داود (٤٥٣٤)، والنسائي (٤٧٧٨)، وابن ماجه (٢٦٣٨).
(٢) أخرجه البخاري (٤٦٢٢)، ومسلم (٢٥٨٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>