للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذهَبَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تيميَّةَ وتِلمِيذُه ابنُ القَيمِ إلى أنَّ المُسافِرَ يَقصُرُ الصَّلاةَ في كلِّ ما يُطلَقُ عليه سَفرٌ؛ لقولِ اللهِ تَعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ [النساء: ١٠١]، فظاهرُ الآيةِ يَدلُّ على أنَّ القَصرَ يتعلَّقُ بكلِّ ضَربٍ في الأرضِ دونَ تَحديدِ مَسافةٍ مُعيَّنةٍ.

قالَ شَيخُ الإِسلامِ : وقد تَنازَعَ العُلماءُ: هل يَختَصُّ بسَفرٍ دونَ سَفرٍ -أيِ القَصرَ- أو يَجوزُ في كلِّ سَفرٍ؟ وأظهَرُ القولَينِ أنَّه يَجوزُ في كلِّ سَفرٍ، قَصيرًا كانَ أو طَويلًا، كما قصَرَ أهلُ مَكةَ خلفَ النَّبيِّ بعَرفةَ ومنًى، وبينَ مَكةَ وعَرفةَ نَحوُ بَريدٍ «أربَعةُ فَراسِخَ».

وأيضًا فليسَ الكتابُ والسُّنةُ يَخُصانِ سَفرًا دونَ سَفرٍ، لا بقَصرٍ ولا بفِطرٍ ولا تَيمُّمٍ، ولم يَحدَّ النَّبيُّ مَسافةَ القَصرِ بحَدٍّ، لا زَمانِيٍّ ولا مَكانِيٍّ، والأَقوالُ المَذكورةُ في ذلك مُتعارِضةٌ، ليسَ على شَيءٍ منها حُجةٌ، وهي مُتناقِضةٌ، ولا يُمكِنُ أن يُحَدَّ بحَدٍّ صَحيحٍ.

فإنَّ الأرضَ لا تُذرَعُ بذَرعٍ مَضبوطٍ في عامَّةِ الأسفارِ، وإنَّ حَركةَ المُسافرِ تَختلِفُ، والواجِبَ أن يُطلَقَ ما أطلَقَه صاحِبُ الشَّرعِ، ويُقيَّدَ ما قيَّده، فيَقصُرَ المُسافِرُ الصَّلاةَ في كلِّ سَفرٍ، وكذلك جَميعُ الأَحكامِ المُتعَلِّقةِ بالسَّفرِ مِنْ القَصرِ والصَّلاةِ على الرَّاحِلةِ والمَسحِ على الخُفَّينِ، ومَن قسَّمَ الأسفارَ إلى قَصيرةٍ وطَويلةٍ، وخصَّ بعضَ الأَحكامِ بهذا، وبعضَها بهذا، وجعَلَها مُتعلِّقةً بالسَّفرِ الطَّويلِ، فليسَ معه حُجَّةٌ يَجبُ الرُّجوعُ إليها، واللهُ أعلَمُ (١).


(١) «مجموع الفتاوى» (٢٤/ ١٢، ١٣، ٣٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>