قالَ الكاسانِيُّ ﵀: وأمَّا كَيفيَّةُ الخُطبةِ ومِقدارُها، فقد قالَ أبو حَنيفةَ: إنَّ الشَّرطَ أن يَذكُرَ اللهَ تَعالى على قَصدِ الخُطبةِ، كذا نُقلَ عنه في «الأَمالي» مُفسَّرًا، قَلَّ الذِّكرُ أو كثُرَ، حتى لو سبَّحَ أو هلَّلَ أو حمِدَ اللهَ على قَصدِ الخُطبةِ، أجزَأَه.
وقالَ أبو يُوسفَ ومُحمدٌ: الشَّرطُ أن يَأتِيَ بكَلامٍ يُسمَّى خُطبةً في العُرفِ؛ لأنَّ المشُروطَ هو الخُطبةُ، والخُطبةُ في المُتعارَفِ اسمٌ لما يَشتمِلُ على تَحميدِ اللهِ تَعالَى، والثَّناءِ عليه، والصَّلاةِ على رَسولِه ﷺ، والدُّعاءِ للمُسلمِينَ، والوَعظِ والتَّذكِيرِ لهم؛ فيَنصرِفُ المُطلَقُ إلى المُتعارَفِ.
ولِأبي حَنيفةَ طَريقانِ: أحدُهما: أنَّ الواجِبَ هو مُطلَقُ ذكرِ اللهِ؛ لقولِه: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: ٩]، وذكرُ اللهِ تَعالى مَعلومٌ لا جَهالةَ فيه، فلم يَكنْ مُجمَلًا؛ لأنَّه تَطاوُعُ العملِ مِنْ غيرِ بَيانٍ يَقتَرنُ به، فتَقييدُه بذِكرٍ يُسمَّى خُطبةً، أو بذِكرٍ طَويلٍ لا يَجوزُ إلا بدَليلٍ.
والآخَرُ: أن يُقيدَ ذكرُ اللهِ تَعالى بما يُسمَّى خُطبةً، لكنَّ اسمَ الخُطبةِ في حَقيقةِ اللُّغةِ يَقعُ على ما قُلنا؛ فإنَّه رُويَ عن عُثمانَ ﵁ أنَّه لمَّا استُخلِفَ خطَبَ في أوَّلِ جمُعةٍ، فلمَّا قالَ: الحَمدُ للهِ، أُرتِجَ عليه، فقالَ:«أنتُم إلى إمامٍ فعَّالٍ أحوَجُ مِنكم إلى إمامٍ قوَّالٍ، وإنَّ أبا بَكرٍ وعمرَ كانا يُعِدَّانِ لِهذا المَكانِ مَقالًا، وستَأتيكمُ الخُطَبُ مِنْ بَعدُ، وأَستَغفرُ اللهَ لي ولكم». ونزَلَ وصلَّى بهمُ الجمُعةَ، وكانَ ذلك بمَحضَرٍ مِنْ المُهاجِرينَ والأَنصارِ، وصَلَّوا خلفَه، وما أَنكَروا عليه صَنيعَه، مع أنَّهم كانوا مَوصوفِينَ بالأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، فكانَ هذا إِجماعًا مِنْ الصَّحابةِ ﵃.