للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذهَبَ الحَنفيةُ إلى أنه لا يَسقطُ حدُّ القذفِ عن القاذِفِ بعَفوِ المَقذوفِ إذا طالَبَ به ثمَّ عفَى عنه، سواءٌ عفَى عنه على مالٍ أم لا؛ لأنَّ المُغلَّبَ فيه حَقُّ اللهِ تعالَى؛ لأنَّ الحُدودَ زَواجرُ، والزواجِرُ مَشروعةٌ حقًّا للهِ تعالى، فأمَّا ما يكونُ حَقًّا للعبدِ فهو في الأصلِ جائزٌ، فما أُوجِبَ مِنْ العُقوباتِ حقًّا للعَبدِ وجَبَ باسمِ القِصاصِ الذي يُنبِئُ عن المُساواةِ؛ ليَكونَ إشارةً إلى معنَى الجبْرِ، وما أُوجِبَ باسمِ الحَدِّ فهوَ حَقُّ اللهِ تعالَى، وفي هذا الاسمِ إشارةٌ إلى معنَى الزَّجرِ.

والدَّليلُ عليهِ أنَّ في حُقوقِ العِبادِ يُعتبَرُ المُماثَلةُ، وبهِ ورَدَ النصُّ حيثُ قالَ تعالَى: ﴿فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤]، ولا مُناسَبةَ بينَ نِسبةِ الزِّنى وبينَ ثَمانينَ جَلدةً لا صُورةً ولا معنًى، والدَّليلُ عليهِ وهو أنَّ الحَدَّ مَشروعٌ لتَعفيةِ أثَرِ الزنى، وحُرمةُ إشاعةِ الفاحِشةِ مِنْ حُقوقِ اللهِ تعالَى، فكانَ هذا نَظيرَ الواجِبِ بمُباشَرةِ الزنى مِنْ حَيثُ إنَّ كلَّ واحدٍ منهُما مَشروعٌ لإبقاءِ الستْرِ وتَعفيةِ أثَرِ الزنى، واعتبارُ الإحصانِ لمعنَى النِّعمةِ، وذلكَ فيما هو مِنْ حَقِّ الله تعالَى (١).

وأمَّا الإمامُ مالِكٌ فاختُلفَ عنه، قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ : واختَلفَ قَولُ مالكٍ في جَوازِ عَفوِ المَقذوفِ عن قاذِفِه عندَ السلطانِ، فمَرَّةً قالَ: لا يَجوزُ إلا أنْ يُريدَ ستْرًا على نفسِه، ومرَّةً قالَ: يَجوزُ على كلِّ حالٍ، ولم يَختلفْ قولُه أنه يَجوزُ قبْلَ رَفعِه إلى السُّلطانِ على كلِّ حالٍ، وكذلكَ


(١) «فتاوى السغدي» (٢/ ٦٤٠)، و «المبسوط» (٩/ ١٠٩)، و «بدائع الصنائع» (٧/ ٥٧)، والهداية (٢/ ١١٣)، و «شرح فتح القدير» (٥/ ٣٢٧)، و «الجوهرة النيرة» (٥/ ٣٥٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>